جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٦٣
﴿وَكُلا﴾ من القاعدين والمجاهدين ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ أي المثوبة الحسنى وهي الجنة لحسن عقيدتهم وخلوص نيتهم وإنما التفاوت في زيادة العمل المقتضى لمزيد الثواب.
قوله كلا مفعول أول لوعد والحسنى مفعوله الثاني وتقديم الأول على الفعل لإفادة القصر تأكيداً للوعد أي كلا منهما وعد الله الحسنى لا أحدهما فقط والجملة اعتراض جيىء بها تداركاً لما عسى يوهمه تفضيل أحد الفريقين على الآخر من حرمان المفضول.
قال الفقهاء : وهذا يدل على أن الجهاد فرض كفاية وليس مفروضاً على كل أحد بعينه لأنه تعالى وعد القاعدين عنه الحسنى كما وعد المجاهدين ولو كان الجهاد واجباً على كل أحد على التعيين لما كان القاعد أهلاً لوعد الله تعالى إياه بالحسنى ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَـاهِدِينَ عَلَى الْقَـاعِدِينَ﴾ عطف على قوله فضل الله ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾ نصب على المصدر لأن فضل بمعنى آجر أي آجرهم أجراً عظيماً وإيثاره على ما هو مصدر من فعله للإشعار بكون ذلك التفضيل أجراً لأعمالهم أو مفعول ثان لفضل لتضمنه معنى الإعطاء أي وأعطاهم زيادة على القاعدين أجراً عظيماً.
وقيل نصب بنزع الخافض أي فضلهم بأجر عظيم ﴿دَرَجَـاتٍ﴾ بدل من أجراً بدل الكل مبين لكمية التفضيل ﴿مِنْهُ﴾ صفة لدرجات دالة على فخامتها وجلالة قدرها أي درجات كائنة منه تعالى وهي سبعون درجة ما بين كل درجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين خريفاً أو سبعمائة درجة وفي الحديث "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض" ويجوز أن يكون انتصاب درجات على المصدرية كما في قولك ضربه أسواطاً أي ضربات كأنه قيل فضلهم تفضلات ﴿وَمَغْفِرَةً﴾ بدل من أجرا بدل البعض لأن بعض الأجر ليس من باب المغفرة أي : مغفرة لما يفرط منهم من الذنوب التي لا يكفرها سائر الحسنات التي لا يأتي بها القاعدون أيضاً حتى تعد من خصائصهم ﴿وَرَحْمَةً﴾ بدل الكل من أجراً
٢٦٦
مثل درجات ويجوز أن يكون انتصابهما بإضمار فعلهما أي غفر لهم مغفرة ورحمهم رحمة هذا ولعل تكرير التفضيل بطريق العطف المنبىء عن المغايرة وتقييده تارة بدرجة وأخرى بدرجات مع اتحاد المفضل والمفضل عليه حسبما يقتضيه الكلام ويستدعيه حسن الانتظام إما لتنزيل الاختلاف العنواني بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات منزلة الاختلاف الذاتي تمهيداً لسلوك طريقة الإيهام ثم التفسير روما لمزيد التحقيق والتقرير كما في قوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٦٣
﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَه بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَـاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ (هود : ٥٨) كأنه قيل فضل الله المجاهدين على القاعدين درجة لا يقادر قدرها ولا يفهم كنهها وحيث كان تحقق هذا العنوان البعيد بينهما موهماً لحرمان القاعدين قيل وكلا وعد الله الحسنى ثم أريد تفسير ما أفاده التنكير بطريق الإبهام بحيث يقطع احتمال كونه للوحدة فقيل ما قيل ولله در شأن التنزيل وإما للاختلاف بالذات بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات على أن المراد بالتفضيل الأول ما خولهم الله تعالى عاجلاً في الدنيا من الغنيمة والظفر والذكر الجميل الحقيق بكونه درجة واحدة وبالتفضيل الثاني ما أنعم به في الآخرة من الدرجات العالية الفائتة للحصر كما ينبىء عنه تقديم الأول وتأخير الثاني وتوسيط الوعد بالجنة بينهما كأنه قيل فضلهم عليهم في الدنيا درجة واحدة وفي الآخرة درجات لا تحصى وقد وسط بينهما في الذكر ما هو متوسط بينهما في الوجود أعني الوعد بالجنة توضيحاً لحالهما ومسارعة إلى تسلية المفضول والله سبحانه أعلم.
وقيل : المجاهدون الأولون من جاهد الكفار والآخرون من جاهد نفسه وعليه قوله عليه السلام :"رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا﴾ لذنوب من جاهد في سبيله ﴿رَّحِيمًا﴾ يدخله الجنة برحمته وهو تذييل مقرر لما وعد من المغفرة والرحمة.
قال القشيري ـ رحمه الله ـ : إن الله سبحانه جمع أولياءه في الكرامات لكنه غاير بينهم في الدرجات فمن غني وغيره أغنى منه ومن كبير وغيره أكبر منه هذه الكواكب منيرة لكن القمر فوقها وإذا طلعت الشمس بهرت أي غلبت جميعها بنورها انتهى فالجنة مشتركة بين الواصلين البالغين والطالبين المنقطعين بعذر وعوام المؤمنين القاعدين عن الطلب بلا عذر لكن الطائفة الأولى في واد والأخريان في واد آخر لا يستوون عند الله تعالى.
قال المولى الجامي قدس سره :
أي كمند بدن و طفل صغير
مانده دردست خواب غفلت اسير
يش ازان كت أجل كند يدار
كر نمردي زخواب سر بردار
إنما السائرون كل رواح
يحمدون السري لدى الاصباح
ودلت الآية على أن أولي الضرر مساوون للمجاهدين في الأجر والثواب.


الصفحة التالية
Icon