﴿فِيمَ كُنتُمْ﴾ أي : في أي شيء كنتم من أمور دينكم كأنه قيل فماذا قالوا في الجواب فقيل :﴿قَالُوا﴾ متجانفين عن الإقرار الصريح بما هم فيه من التقصير متعللين بما يوجبه على زعمهم ﴿كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأرْضِ﴾ أي : في أرض مكة عاجزين عن القيام بمواجب الدين فيما بين أهلها ﴿قَالُوا﴾ إبطالاً لتعللهم وتبكيتاً لهم ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ إلى قطر آخر منها تقدرون فيه على إقامة أمور الدين كما فعله من هاجر إلى المدينة وإلى الحبشة وقيل : كانت الطائفة المذكورة قد خرجوا مع المشركين إلى بدر فقتلوا فيها فضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم وقالوا لهم ما قالوا فيكون ذلك منهم تقريعاً وتوبيخاً لهم بما كانوا فيه من مساعدة الكفرة بانتظامهم في عسكرهم ويكون جوابهم بالاستضعاف تعللاً بأنهم كانوا مقهورين تحت أيديهم وأنهم أخرجوهم أي إلى بدر كارهين فرد عليهم بأنهم كانوا بسبيل من الخلاص من قهرهم متمكنين من المهاجرة فأولئك الذين حكيت أحوالهم الفظيعة أي : في الآخرة ﴿جَهَنَّمَ﴾ كما أن مأواهم في الدنيا دار الكفر لتركهم الواجب ومساعدتهم الكفار وكون جهنم مأواهم نتيجة لما قبله وهو الجملة الدالة على أن لا عذر لهم في ذلك أصلاً فعطف عليه عطف جملة على أخرى ﴿وَسَآءَتْ مَصِيرًا﴾ مصيرهم جهنم ﴿إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ﴾ الاستثناء منقطع فإن المتوفين ظالمين أنفسهم إما مرتدون أو عصاة بتركهم الهجرة مع القدرة عليها وهؤلاء المستضعفون أي المستذلون المقهورون تحت أيدي الكفار ليسوا بقادرين عليها فلم يدخلوا فيهم فكان الاستثناء منقطعاً والجار والمجرور حال من المستضعفين أي كائنين منهم.
فإن قلت : المستثنى المنقطع وإن لم يكن داخلاً في المستثنى منه لكن لا بد أن يتوهم دخوله في حكم المستثنى منه ومن المعلوم أن لا يتوهم دخول الأطفال في الحكم السابق وهو كون مأواهم جهنم فكيف ذكر في عداد المستثنى.
قلت للمبالغة في التحذير من ترك الهجرة وإيهام أنها لو استطاعها غير المكلفين لوجبت عليهم والإشعار بأنه لا محيص لهم عنها البتة تجب عليهم إذا بلغوا حتى كأنها واجبة عليهم قبل البلوغ لو استطاعوا وأن قوامهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم متى أمكنت ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا﴾ صفة للمستضعفين إذ لا توقيت فيه فيكون في حكم المنكر واستطاعة الحيلة وجدان أسباب الهجرة وما تتوقف عليه واهتداء السبيل معرفة طريق الموضع المهاجر إليه بنفسه أو بدليل فأولئك إشارة إلى المستضعفين الموصوفين بما ذكر من صفات العجز ﴿عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ ذكر بكلمة الإطماع ولفظ العفو إيذاناً بأن ترك الهجرة أمر خطير حتى أن المضطر من حقه أن لا يأمن ويترصد الفرصة ويعلق بها قلبه ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ معنى كونه عفواً صفحه وإعراضه عن العقوبة ومعنى كونه غفوراً ستر القبائح والذنوب في الدنيا والآخرة فهو كامل العفو تام الغفران، قال السعدي قدس سره :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٦٨
س رده بيند عملهاى بد
هم اورده وشد ببالاى خود
٢٦٩
وفي الآية الكريمة إرشاد إلى وجوب المهاجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة أمور دينه بأي سبب كان.
وعن النبي صلى الله عليه وسلّم "من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجبت له الجنة وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد عليه السلام".
قال الحدادي في قوله تعالى :﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ دليل أنه لا عذر لأحد في المقام على المعصية في بلده لأجل المال والولد والأهل بل ينبغي أن يفارق وطنه إن لم يمكنه إظهار الحق فيه ولهذا روي عن سعد بن جبير أنه قال : إذا عمل بالمعاصي بأرض فاخرج منها :
سعد يا حب وطن كره حديث است صحيح
نتوان مرد بسختي كه من اينجاز آدم