والإشارة في الآية أن المؤمن عام وخاص وخاص الخاص كقوله :﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ﴾ (فاطر : ٣٢) وهو العام ﴿وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ﴾ (فاطر : ٣٢) وهو الخاص ﴿وَمِنْهُمْ سَابِقُا بِالْخَيْرَاتِ﴾ (فاطر : ٣٢) وهو خاص الخاص ﴿الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَـائِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ﴾ هم العوام الذين ظلموا أنفسهم بتدسيتها من غير تزكيتها عن أخلاقها الذميمة وتحليتها بالأخلاق الحميدة ليفلحوا فخابوا وخسروا كما قال تعالى :﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـاـاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـاـاهَا﴾ (الشمس : ٩ ـ ١٠) ﴿قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ﴾ أي : قالت الملائكة حين قبضوا أرواحهم في أي غفلة كنتم تضيعون أعماركم وتبطلون استعدادكم الفطري؟ وفي أي وادٍ من أودية الهوى تهيمون؟ وفي أي روضة من رياض الدنيا كنتم تؤثرون الفاني على الباقي وتنسون الطهور والساقي وإخوانكم يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ويهاجرون عن الأوطان ويفارقون الإخوان والأخدان ﴿قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأرْضِ﴾ أي عاجزين في استيلاء النفس الأمارة وغلبة الهوى مأسوري الشيطان في حبس البشرية ﴿قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ﴾ أي أرض القلب ﴿وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٦٨
فتحرجوا من مضيق أرض البشرية فتسلكوا في فسحة عالم الروحانية بل تطيروا في هواء الهوية فأولئك يعني ظالمي أنفسهم ﴿مَأْوَاـاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ البعد عن مقامات القرب ﴿وَسَآءَتْ مَصِيرًا﴾ جهنم البعد لتاركي القرب والمتقاعدين عن جهاد النفس ﴿إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ﴾ الذي صفتهم ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً﴾ في الخروج عن الدنيا لكثرة العيال وضعف الحال ولا على قهر النفس وغلبة الهوى ولا على قمع الشيطان في طلب الهدى ﴿وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا﴾ إلى صاحب ولاية يتمسكون بعروته الوثقى ويعتصمون بحبل إرادته في طلب المولى فيخرجهم من ظلمات أرض البشرية إلى نور الربوبية على أقدام العبودية وهم المقتصدون المشتاقون ولكنهم بحجب الأنانية محجوبون ومن شهود جمال الحق محرومون فعذرهم بكرمه ووعدهم رحمته وقال :﴿فأولئك عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ السكون عن الله والركون إلى غير الله ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ في الأزل ﴿عَفُوًّا﴾ ولعفوه أمكنهم التقصير في العبودية ﴿غَفُورًا﴾ ولغفرانه أمهلهم في إعطاء حق الربوبية كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٦٨
﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ترغيب في المهاجرة وتأنيس لها وسبيل الله ما أمر بسلوكه ﴿يَجِدْ فِى الارْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا﴾ أي متحولاً يتحول إليه ومهاجراً وإنما عبر عنه بذلك تأكيداً للترغيب لما فيه من الإشعار
٢٧٠
بكون ذلك المتحول بحيث يصل المهاجر بما فيه من الخير والنعمة إلى ما يكون سبباً لرغم أنف قومه الذين هاجرهم.
والرغم الذل والهوان وأصله لصوق الأنف بالرغام وهو التراب يقال أرغم الله أنفه أي ألصقه بالرغام ولما كان الأنف من جملة الأعضاء في غاية العزة والتراب في غاية الذلة جعل قولهم رغم أنفه كناية عن الذلة ﴿وَاسِعَةً﴾ في الرزق وإظهار الدين ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِنا بَيْتِه مُهَاجِرًا﴾ أي مفارقاً قومه وأهله وولده ﴿إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ أي إلى طاعة الله وطاعة رسوله ﴿ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ﴾ أي : قبل أن يصل إلى المقصد وإن كان ذلك خارج بابه كما ينبىء عنه إيثار الخروج من بيته من المهاجرة ﴿فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُه عَلَى اللَّهِ﴾ الوقوع والوجوب متقاربان والمعنى ثبت أجره عند الله ثبوت الأمر الواجب ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا﴾ مبالغةً في المغفرة فيغفر له ما فرط منه من الذنوب التي من جملتها القعود عن الهجرة إلى وقت الخروج ﴿رَّحِيمًا﴾ مبالغاً في الرحمة فيرحمه بإكمال ثواب هجرته.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٧٠


الصفحة التالية
Icon