ـ روي ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما بعث بالآيات المحذرة عن ترك الهجرة إلى مسلمي مكة.
قال جندب بن ضمرة من بني الليث لبنيه وكان شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يركب الراحلة احملوني فإني لست من المستضعفين وإني لأهتدي الطريق ولي من المال ما يبلغني المدينة وأبعد منها والله لا أبيت الليلة بمكة فحمله على سرير متوجهاً إلى المدينة فلما بلغ التنعيم وهو موضع قريب من مكة أشرف على الموت فأخذ يصفق بيمينه على شماله ثم قال : اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك عليه رسولك فمات حميداً فلما بلغ خبره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم قالوا : لو توفى بالمدينة لكان أتم أجراً وقال المشركون وهم يضحكون ما أدرك هذا ما طلب فأنزل الله هذه الآية فمن هذا قالوا : المؤمن إذا قصد طاعة ثم أعجزه العذر عن إتمامها كتب الله له ثواب تمام تلك الساعة.
وفي الكشاف قالوا : كل هجرة لغرض ديني من طلب علم أو حج أو جهاد أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة وزهداً في الدنيا أو ابتغاء رزق طيب فهي هجرة إلى الله ورسوله وإن أدركه الموت في طريقه فأجره واقع على الله انتهى.
قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده أفندي قدس سره من مات قبل الكمال فمراده يجيىء إليه كما أن من مات في طريق الكعبة يكتب له أجر حجين.
يقول : الفقير سمي الذبيح المتخلص بحقي : سمعت مرة شيخي العارف العلامة أبقاه الله بالسلامة وهو يقول عند تفسير هذه الآية : إن الطالب الصادق إذا سافر من أرض بشريته إلى مقام القلب فمات قبل أن يصل إلى مراده فله نصيب من أجر البالغين إلى ذلك المقام لصدق طلبه وعدم انقطاعه عن الطريق إلى حد الموت بل الله يكمله في عالم البرزخ بوساطة روح من أرواحه أو بوساطة فيضه.
ومثل هذا جاء في حق بعض السلاك وله نظير في الشريعة كما روي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال : بلغني أن المؤمن إذا مات ولم يحفظ القرآن أمر حفظته أن يعلموه القرآن في قبره حتى يبعثه الله تعالى يوم القيامة مع أهله فإذا كان طالب القرآن الرسمي بالغاً إلى مراده، وأنّ في البرزخ لحرصه على التحصيل فليس ببدع أن يكون طالب القرآن الحقيقي وأصلاً إلى مرامه في عالم المثال المقيد لشغفه على التكميل.
أقول : وأما ما قال الشيخ الكبير صدر الدين القنوي قدس سره في الفلك الآخر من الفلوك : من المتفق شرعاً وعقلاً وكشفاً أن كل كمال لم يحصل للإنسان
٢٧١
في هذه النشأة وهذه الدار فإنه لا يحصل له بعد الموت في الدار الآخرة انتهى فلعله في حق أهل الحجاب الذين قعدوا عن الطلب رأساً لا في حق أهل الحجاب الذين سلكوا فماتوا قبل الوصول إلى مكاشفة الأفعال ومشاهدة الصفات ومعاينة الذات.
قال المولى الجامي في شرح الكلمة الشعيبية من الفصوص الحكمية : فما يدل على عدم الترقي بعد الموت من قوله تعالى :﴿وَمَن كَانَ فِى هَـاذِه أَعْمَى﴾ (الإسراء : ٧٢) الآية إنما هو بالنسبة إلى معرفة الحق لا لمن لا معرفة له أصلاً فإنه إذا انكشف الغطاء ارتفع العمي بالنسبة إلى الدار الآخرة ونعيمها وجحيمها والأحوال التي فيها وأما قوله عليه السلام :"إذا مات ابن آدم انقطع عمله" فهو يدل على أن الأشياء التي يتوقف حصولها على الأعمال لا تحصل وما لا يتوقف عليها بل يحصل بفضل الله ورحمته فقد يحصل وذلك من مراتب التجافي انتهى كلامه.
فعلى السالك أن لا ينقطع عن الطريق ويرجو من الله التوفيق كي يصل إلى منزل التحقيق، قال الحافظ الشيرازي :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٧٠
كاروان رفت تودرراه كمين كاه بخواب
وه كه بس بي غلغل ندين جرسي
بال بكشاي صفير از شجر طوبى زن
حيف باشد وتو مرغى كه اسير قفسي
تاو مجمر نفسي دامن جانان كيرم
جان نهاديم بر آتش زى خوش نفسي
ند ويد بهواي توبهر سو حافظ
يسر الله طريقاً بك يا ملتمسي


الصفحة التالية
Icon