وفي "التأويلات النجمية" : أن الإشارة في الآية من غاية ضعف الإنسان وحياته الحيوانية واستهواء الشيطان يكون الخوف غالباً على الطالب الصادق في بدء طلبه فكما أراد أن يسافر عن الأوطان ويهاجر عن الإخوان طالباً فوائد إشارة سافروا لتصحوا وتغنموا لإزالة مرض القلب ونيل صحة الدين والفوز بغنيمة صحبة شيخ كامل مكمل وطبيب حاذق مشفق ليعالج مرض قلبه ويبلغه كعبة طلبه فتسول له النفس أعداد الرزق وعدم الصبر ويعده الشيطان بالفقر فقال تعالى على قضية ﴿وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلا﴾ (البقرة : ٢٦٨) ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي طلب الله ﴿يَجِدْ فِى الارْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا﴾ أي : بلاداً أطيب من بلاده وإخواناً في الدين أحسن من إخوانه ﴿وَاسِعَةً﴾ في الرزق.
وفيه إشارة أخرى وهي ومن يهاجر عن بلد البشرية في طلب حضرة الربوبية يجد في أرض الإنسانية مراغماً كثيراً أي متحولاً ومنازل مثل القلب والروح والسر وسعة أي وسعة في تلك العوالم الوسيعة أو سعة من رحمة الله كما أخبر الله تعالى على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام عن تلك الوسعة والسعة بقوله :"لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن" فافهم يا كثير الفهم قصير النظر قليل العبر ثم قال دفعاً للهواجس النفسانية والوساوس الشيطانية في التخويف بالموت والإيعاد بالفوت ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِنا بَيْتِهِ﴾ أي بيت بشريته بترك الدنيا وقمع الهوى وقهر النفس بهجران صفاتها وتبديل أخلاقها ﴿مُهَاجِرًا﴾ إلى الله طالباً له في مبايعة رسوله ﴿ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ﴾ قبل وصوله ﴿فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُه عَلَى اللَّهِ﴾ يعني : فقد أوجب الله تعالى على ذمة كرمه بفضله ورحمته أن يبلغه إلى أقصى مقاصده وأعلى مراتبه في الوصول بناء على صدق نيته وخلوص طويته إذا كان المانع من أجله ونية المؤمن خير من عمله ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا﴾ لذنب بقية أنانية وجوده ﴿رَّحِيمًا﴾ عليه يتجلى صفة جوده ليبلغ
٢٧٢
العبد إلى كمال مقصوده بمنه وكرمه وسعة جوده انتهى كلام "التأويلات".
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٧٠
﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الأرْضِ﴾ شروع في بيان كيفية الصلاة عند الضرورات من السفر ولقاء العدو والمطر والمرض أي إذا سافرتم أي مسافرة كانت للهجرة أو للجهاد أو لغيرهما ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ أي : حرج ومأثم في ﴿أَن تَقْصُرُوا﴾ شيئاً ﴿مِنَ الصَّلواةِ﴾ فهو صفة لمحذوف والقصر خلاف المد يقال قصرت الشيء أي جعلته قصيراً بحذف بعض أجزائه أو أوصافه فمتعلق القصر حقيقة إنما هو ذلك الشيء لا بعضه فإنه متعلق الحذف دون القصر وعلى هذا فقوله من الصلوة ينبغي أن يكون مفعولاً لتقصروا على زيادة من حسبما رآه الأخفش وأما على تقدير أن تكون تبعيضية ويكون المفعول محذوفاً كما هو رأى سيبويه أي شيئاً من الصلاة فينبغي أن يصار إلى وصف الجزء بصفة الكل والمراد قصر الرباعيات بالتنصيف فإنها تصلي في السفر ركعتين فالقصر إنما يدخل في صلاة الظهر والعصر والعشاء دون المغرب والفجر وأدنى مدة السفر الذي يجوز فيه القصر عند أبي حنيفة رحمه الله مسيرة ثلاثة أيام ولياليها الأيام للمشي والليالي للاستراحة بسير الإبل ومشي الإقدام بالاقتصاد، ولا اعتبار بإبطاء الضارب أي المسافر السائر وإسراعه فلو سار مسيرة ثلاثة أيام ولياليهن في يوم قصر ولو سار مسيرة يوم في ثلاثة أيام لم يقصر ثم تلك المسيرة ستة برد جمع بريد كل بريد أربعة فراسخ وكل فرسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو الذي قدر أميال البادية كل ميل اثنا عشر ألف قدم وهي أربعة آلاف خطوة فإن كل ثلاثة أقدام خطوة.
وظاهر الآية الكريمة التخيير بين القصر والإتمام وأن الإتمام أفضل لكن عندنا يجب القصر لا محالة خلا أن بعض مشايخنا سماه عزيمة وبعضهم رخصة إسقاط بحيث لا مساغ للإتمام لا رخصة توفية إذ لا معنى للتخيير بين الأخف والأثقل قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "صدقة تصدق الله بها عليكم" وهو يدل على عدم جواز الإكمال لأن التصدق بما لا يحتمل التمليك إسقاط محض لا يحتمل الرد فليس لنا إلا التدين بما شرع الله والعمل بما حكم.
قال في "الأشباه" : القصر للمسافر عندنا رخصة إسقاط بمعنى العزيمة بمعنى أن الإتمام لم يبق مشروعاً حتى أثم به وفسدت لوأتم ومن لم يقعد على رأس الركعتين فسدت صلاته لاتصال النافلة بها قبل كمال أركانها وإن قعد في آخر الركعة الثانية قدر التشهد أجزأته الأخريان نافلة ويصير مسيئاً بتأخير السلام.
قال في تفسير الحدادي المسافر إذا صلى الظهر أربعاً ولم يقعد في الثانية قدر التشهد فسدت صلاته كمصلي الفجر أربعاً انتهى.
فإن قلت فما تصنع بقوله :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٧٠