ـ روي ـ أن أبا سفيان قال عند انصرافه من أحد : يا محمد موعدنا موسم بدر لقابل إن شئت فقال صلى الله عليه وسلّم "إن شاء الله تعالى" فلما كان القابل ألقى الله الرعب في قلبه فندم على ما قال فبعث نعيم بن مسعود ليخوف المؤمنين من الخروج إلى بدر فلما أتى نعيم المدينة وجد المؤمنين يتجهزون للخروج فقال لهم : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ففتر المؤمنين فقال عليه السلام :"لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد" فأنزل الله هذه الآية إرشاداً لمن طرأ عليهم الوهن في ابتغاء القوم أي طلب أبي سفيان وقوله.
والمعنى لا تفتروا ولا تضعفوا في طلب الكفار بالقتال أي لا يورثنكم ما أصابكم يوم أحد من القتل والجراحات فتوراً وضعفاً ﴿إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ﴾ من الجراح ﴿فَإِنَّهُمْ﴾ أي القوم ﴿يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ﴾ أي : إن كان لكم صارف عن الحرب وهو أنكم تألمون من الجراح فلهم مثل ذلك من الصارف ولكم أسباب داعية إلى الحرب ليست لهم كما أشار إليها بقوله :﴿وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ﴾ من الثواب والنصر ﴿مَا لا يَرْجُونَ﴾ والحاصل ليس ما تقاسونه من الآلام مختصاً بكم بل هو مشترك بينكم وبينهم ثم أنهم يصبرون على ذلك فما لكم لا تصبرون مع أنكم أولى به منهم حيث ترجون من الله من إظهار دينكم على سائر الأديان ومن الثواب في الآخرة ما لا يخطر ببالهم قطعاً ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا﴾ مبالغاً في العلم فيعلم أعمالكم وضمائركم ﴿حَكِيمًا﴾ فيما يأمر وينهى فجدّوا في الامتثال بذلك فإن فيه عواقب حميدة وفي أمره بابتغاء القوم بالقتال لهمة بالغة كاملة ومصلحة تامة شاملة فاطلبوهم بالقتال فإن الله يعذبهم في الدنيا بأيديكم وفي الآخرة بأيدي الزبانية فهل ينتظرون إلا سنة الله في الكافرين
٢٧٧
الأولين وهو إنزال العذاب بهم حين كذبوا أنبياءهم فلن تجد لسنة الله تبديلاً يجعل التعذيب غير تعذيب وغير التعذيب تعذيباً ولن تجد لسنة الله تحويلاً بنقل التعذيب عنهم إلى غيرهم والحاصل أنه لا يبدل نفس السنة ولا يحول محل السنة إذ لقد حق القول عليهم ولا يتبدل القول لديه
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٧٦
وفي الآية الكريمة حث على الشجاعة والتجلد وإظهار الغلظة كما قال تعالى :﴿وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾.
(التوبة : ١٢٣)، قيل :
هست نرمي آدت جان سمور
وزدرشتي ميبردجان خارشت
قال سلمان الفارسي رضي الله عنه : إذا اضطرب قلب المؤمن عند محاربة الكافر تتحدر ذنوبه كتحدر أوراق الشجرة بهبوب النسيم.
وقال عطية بن قيس إذا خرجت غازياً فإن خطر ببالي كثرة العدد والعدد رجعت عن السفر خوفاً من الغرور وإن خطر قلتهما قلت : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ومن كلمات بهرمام :
(هر آنكه سرتاج دارد
بايدكه دل از سربر دارد)
هر آنكه اي نهد در نكار خانه ملك
يقين كه مال وسروهره هست دربازد
ومن كلمات السعدي قدس سره :
درقا كند مرد بايدبود
برمخنث سلاح جنك ه سود
يقول الفقير : سمعت من حضرة شيخي وسندي الذي هو منزلة روحي من جسدي أنه قال السلطان والوزير بالنسبة إلى العساكر الإسلامية كالقلب بالنسبة إلى الأعضاء والجوارح الإنسانية فإذا ثبت ثبتوا كما في القلب إذا صلح صلح الجسد كله فإن كان إقبال الإمام بعشر مراتب كان إقبال قومه بمرتبة واحدة وإن كان بمائة مرتبة كان إقبالهم بعشر مراتب وهكذا وأما إدباره فعكسه فإن كان بمرتبة كان إدبار القوم بعشر مراتب وإن كان بعشر مراتب كان أدبارهم بمائة مرتبة وهكذا وليس الدخول بدار من باب تفرج البلدان والخروج إلى المسير والتنعم فلا بد لكل مجاهد أن يجتهد في خدمة الدين ويتوكل على الله ويعقد على وعده ويصبر على البلاء حتى يبلغ الكتاب أجله وإن أتى الباب فلا يستعجل الأمناء ولا يهن ولا يحزن بمكث الفتح المطلوب بل ينتظر إلى فرج الله بالنصر والفتح عن قريب فإن انكسار القلوب مفتاح أبواب الغيوب ومدار انفتاح أنواع الفتوح.
والإشارة في الآية ﴿وَلا تَهِنُوا فِى ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ﴾ أي في طلب النفس وصفاتها والجهاد معها ﴿إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ﴾ في الجهاد معها وتتعبون بالرياضات والمجاهدات وملازمة الطاعات والعبادات ومداومة الذكر ومراقبة القلب في طلب الحق والقبول والوصول إلى المقامات العلية ﴿فَإِنَّهُمْ﴾ يعني : النفس والبدن في طلب الشهوات الدنيوية واللذات الحيوانية والمرادات الجسمانية ﴿يَأْلَمُونَ﴾ ويتعبون في طلبها ﴿كَمَا تَأْلَمونَا وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ﴾ العواطف الأزلية والعوارف الأبدية ﴿مَا لا يَرْجُونَ﴾ النفوس الردية من هممها الدنية التي لا تتجاوز من قصورها عن المقاصد الدنيوية ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ في الأزل ﴿عَلِيمًا﴾ باستعداد كل طائفة من أصناف الخلق ﴿حَكِيمًا﴾ فيما حكم لكل واحد منهم من المقاصد والمشارب قد علم كل إناس مشربهم وكل حزب بما لديهم فرحون.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٧٦


الصفحة التالية
Icon