﴿إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَـابَ﴾ أي القرآن إنزالاً ﴿بِالْحَقِّ﴾.
ـ روي ـ أن رجلاً من الأنصار يقال له طعمة بن أبيرق من بني ظفر سرق درعاً من جاره قتادة
٢٧٨
بن النعمان في جراب دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه فخبأها عند زيد بن السمين اليهودي فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد وحلف ما أخذها وماله بها علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها فقال : دفعها إليّ طعمة وشهد له ناس من اليهود على ذلك فقالت بنو ظفر : انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسألوه أن يجادل اليهودي ليدفع فضيحة البهتان عن صاحبهم طعمة وقالوا له عليه السلام أن يعاقب اليهودي ويقطع يده بناء على شهادة قوم طعمة على براءته وعلى أن اليهودي هو السارق ولم يظهر له عليه السلام ما يوجب القدح في شهادتهم بناء على كون كل واحد من الشاهد والمشهود له من المسلمين ظاهراً فلذلك مال طبعه إلى نصرة الخائن والذب عنه إلا أنه لم يحكم بذلك بل توقف وانتظر الوحي فنزلت الآية ناهية عنه ومنبهة على أن طعمة وشهوده كاذبون وأن اليهودي بريء من ذلك الجرم ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاـاكَ اللَّهُ﴾ أي : بما عرفك وأوحى به إليك.
فأراك ليس من الرؤية البصرية ولا من التي بمعنى العلم وإلا لاستدعى ثلاثة مفاعيل بل هو منقول من رأيت بمعنى الاعتقاد والمعرفة وسميت المعرفة المذكورة رؤية لكونها جارية مجرى الرؤية في القوة والظهور والخلوص من وجوه الريب
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٧٨
﴿وَلا تَكُن﴾ أي فاحكم به ولا تكن ﴿لِّلْخَآئِنِينَ﴾ أي لأجلهم والذب عنهم وهم طعمة ومن يعينه فإنه روي أن قومه علموا أن تلك السرقة عمل طعمة بناء على أنه سارق في الجاهلية لكنهم بيتوا طول ليلهم واتفقوا على أن يشهدوا بالسرقة على اليهودي دفعاً عن طعمة عقوبة السرقة فلذلك وصفهم الله جميعاً بالخيانة أو المراد بالخائنين هو وكل من يتسير بسيرته ﴿خَصِيمًا﴾ أي مخاصماً للبراء أي لا تخاصم اليهودي لأجلهم ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ﴾ مما هممت به تعويلاً على شهادتهم.
قال ابن الشيخ ولما صدر عنه عليه السلام الهم بذلك الحكم الذي لو وقع لكان خطأ في نفسه أمر الله تعالى إياه عليه السلام بأن يستغفر لهذا العذر وإن كان معذوراً فيه عند الله بناء على أن حسنات الأبرار سيآت المقربين ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ مبالغاً في المغفرة والرحمة لمن يستغفره ﴿وَلا تُجَـادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ﴾ الاختيان والخيانة بمعنى أي يخونونها بالمعصية وإنما قال يختانون أنفسهم وإن كانوا ما خانوا أنفسهم لأن مضرة خيانتهم راجعة إليهم كما يقال فيمن ظلم غيره ما ظلم إلا نفسه كذا في "تفسير الحدادي" والمراد بالموصول إما طعمة وأمثاله وإما هو ومن عاونه وشهد ببراءته من قومه فإنهم شركاء له في الإثم ولخيانة ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ﴾ عدم المحبة كناية عن البغض والسخط ﴿مَن كَانَ خَوَّانًا﴾ مفرطاً في الخيانة مصراً عليها ﴿أَثِيمًا﴾ منهمكاً فيها أطلق على طعمة لفظ المبالغة الدال على تكرر الفعل منه مع أن الصادر منه خيانة واحدة وإثم واحد لكون طبعه الخبيث مائلاً إلى تكثير كل واحد من الفعلين.
وقد روي أنه هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطاً بها ليسرق متاع أهله فسقط الحائط عليه فقتله قيل إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات.
وعن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقطع يد سارق فجاءت أمه تبكي وتقول هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه فقال : كذبت إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ﴾ يستترون منهم حياء وخوفاً من ضررهم ﴿وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ﴾
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٧٨
أي لا يستحيون منه سبحانه وهو أحق بأن يستحى
٢٧٩


الصفحة التالية
Icon