ـ وحكي ـ أن امرأة وضعت لقمة في فم سائل ثم ذهبت إلى مزرعة فوضعت ولدها في موضع فأخذه الذئب فقالت يا رب ولدي فأخذ آت عنق الذئب واستخرج ولدها من غير أذى ثم قال : هذه اللقمة لتلك اللقمة التي وضعتها في فم السائل فكل يرى أثر صنعه في الدنيا أيضاً.
ومنها أن العلم والحكمة من أعظم الفضائل والمراد العلم النافع المقرب إلى الله تعالى أعاذنا الله مما لم ينفع منه على ما قال عليه الصلاة والسلام في دعائه "وأعوذ بك من علم لا ينفع" فإن العلم النافع لا ينقطع مدده في الآخرة أيضاً على ما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له".
ومنها أن لا يرى العبد الفضائل والخيرات من نفسه بل من فضل الله ورحمته وليس للعبد أن يزكي نفسه فإن الأنفس ليست بمحل التزكية فمن استحسن من نفسه شيئاً فقط أسقط من باطنه أنوار اليقين والكامل لا يرى لنفسه قدراً فكيف لعمله وكل ما يعمله العبد من بدايته إلى نهايته لا يقابل لنعمة الوجود.
ـ حكي ـ عن شاه شعاع الكرماني أنه كان جالساً في مسجد فقام فقير وسأل الناس فلم يعطوه شيئاً فقال الكرماني من يشتري حج خمسين سنة بمن من الخير، فيعطي هذا الفقير وكان هناك فقيه فقال : أيها الشيخ قد استحففت بالشريعة فقال الكرماني : لا أرى لنفسي قيمة فكيف أرى لعملي وليس المراد التعطيل عن العمل بل يعملون جميع الحسنات ولا يرون لها قدراً بل يرون التوفيق لها من فضل الله تعالى، قال السعدي قدس سره :
كراز حق توفيق خيري رسد
كه از بنده خيري بغيري رسد
ورويي بخدمت نهى بر زمين
خدارا ثنا كوى وخودرا مبين
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٨٢
والإشارة في الآية أن فضل الله موهبة من مواهب الحق يؤتيه من يشاء وليس لأحد فيه مدخل بالكسب والاستجلاب وبذلك يهدي العبد للإيمان ويوفقه للعمل الصالح والعظيم في قوله :﴿وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ هو الله تعالى أي أن الله العظيم هو فضل الله عليك ورحمته كما أنك فضل الله ورحمته على العالمين ولهذا قال :"لولاك لما خلقت الافلاك" ومن فضل الله عليك أنه لم يضله شيء من الروحانيات والجسمانيات عن طريق الوصول اللهم احفظنا من الموانع في طريق الوصول إليك آفاقية أو أنفسية والحقنا بفضلك بالنفوس القدسية
٢٨٣
﴿لا خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاـاهُمْ﴾ أي كثير من تناجي الناس وهو في اللغة سر بين اثنين وذهب الزجاج إلى أن النجوى ما تفرد به الجماعة أو الاثنان سراً كان أو ظاهراً.
قال مجاهد هذه الآية عامة في حق جميع الناس غير مختصة بقوم طعمة وإن نزلت في تناجي قوم السارق لتخليصه ﴿إِلا مَنْ أَمَرَ﴾ أي إلا في نجوى من أمر على أنه مجرور بدل من كثير كما تقول لا خير في قيامهم إلا قيام زيد ﴿بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ﴾ المعروف كل ما يستحسنه الشرع ولا ينكره العقل فينتظم أصناف الجميل وفنون أعمال البر وقد فسر هنا بالقرض وإغاثة الملهوف وصدقة التطوع على أن المراد بالصدقة الواجبة قال صلى الله عليه وسلّم "كل معروف صدقة" وأول أهل الجنة دخولاً أهل المعروف وصنائع المعروف تقي مصارع السوء :
تونيكي كن بآب انداز اي شاه
اكر ما هي نداند داند الله
وفي الحديث :"عمل ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو ذكر الله" ﴿أَوْ إِصْلَـاحا بَيْنَ النَّاسِ﴾ عند وقوع المشاقة والمعاداة بينهم من غير أنه يجاوز في ذلك حدود الشرع الشريف وفي الحديث "ألا أخبركم بأفضل درجة من الصلاة والصدقة" قالوا : بلى يا رسول الله قال :"إصلاح ذات البين" وفساد ذات البين هي الحالقة فلا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين" وعن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال له :"ألا أدلك على صدقة خير لك من حمر النعم" قال : بلى يا رسول الله قال :"تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتقرب بينهم إذا تباعدوا" قالوا : ولعل السر في إفراد هذه الأقسام الثلاثة بالذكر أن عمل الخير المتعدي إلى الناس إما لإيصال المنفعة أو لدفع المضرة والمنفعة.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٨٢