﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾ يقال : جاء شيخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال : إني شيخ منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله شيئاً منذ عرفته وآمنت به ولم أتخذ من دونه ولياً ولم أوقع المعاصي جراءة وما توقعت طرفة عين أني أعجز الله هرباً وإني لنادم تائب فما ترى حالتي عند الله؟ فنزلت هذه الآية.
فالشرك غير مغفور إلا بالتوبة عنه وما سواه مغفور سواء حصلت التوبة أو لم تحصل لكن لا لكل أحد بل لمن يشاء الله مغفرته ﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـا بَعِيدًا﴾ عن الحق فإن الشرك أعظم أنواع الضلالة وأبعدها عن الصواب والاستقامة.
قال الحدادي أي فقد ذهب عن الصواب والهدى ذهاباً بعيداً وحرم الخير كله.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٨٥
والفائدة
٢٨٥
في قوله :﴿بَعِيدًا﴾ أن الذهاب عن الجنة على مراتب أبعدها الشرك بالله تعالى انتهى.
فالشرك أقبح الرذائل كما أن التوحيد أحسن الحسنات.
والسيآت على وجوه كأكل الحرام وشرب الخمر والغيبة ونحوها لكن أسوء الكل الشرك بالله ولذلك لا يغفر وهوجلي وخفي حفظنا الله منهما.
وكذا الحسنات على وجوه ويجمعها العمل الصالح وهو ما أريد به وجه الله وأحسن الكل التوحيد لأنه أساس جميع الحسنات وقامع السيآت ولذلك لا يوزن قال عليه السلام :"كل حسنة يعملها ابن آدم توزن يوم القيامة إلا شهادة أن لا إله إلا الله فإنها لا توضع في ميزانه" لأنها لو وضعت في ميزان من قالها صادقاً ووضعت السموات والأرضون السبع وما فيهن كان لا إله إلا الله أرجح من ذلك ثم أن الله تعالى بين كون ضلالهم ضلالاً بعيداً فقال :﴿أَنِ﴾ بمعنى ما النافية ﴿يَدْعُونَ﴾ أي : المشركون وهو بمعنى يعبدون لأن من عبد شيئاً فإنه يدعوه عند احتياجه إليه ﴿مِن دُونِهِ﴾ الضمير راجع إلى الله تعالى :﴿إِلا إِنَـاثًا﴾ جمع أنثى والمراد الأوثان وسميت أصنامهم إناثاً لأنهم كانوا يصورونها بصورة الإناث ويلبسونها أنواع الحلل التي تتزين بها النساء ويسمونها غالباً بأسماء المؤنثات نحو اللات والعزى ومناة والشيء قد يسمى أنثى لتأنيث اسمه أو لأنها كانت جمادات لا أرواح فيها والجماد يدعى أنثى تشبيهاً له بها من حيث أنه منفعل غير فاعل ولعله تعالى ذكره بهذا الاسم تنبيهاً على أنهم يعبدون ما يسمونه إناثاً لأنه ينفعل ولا يفعل ومن حق المعبود أن يكون فاعلاً غير منفعل ليكون دليلاً على تناهي جهلهم وفرط حماقتهم وقيل : المراد الملائكة فإن من المشركين من يعبد الملائكة ويقول الملائكة بنات الله تعالى قال الله تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الملائكة تَسْمِيَةَ الانثَى﴾ (النجم : ٢٧)مع اعترافهم بأن إناث كل شيء أخسه وأرذله ﴿وَإِن يَدْعُونَ﴾ أي وما يعبدون بعبادة الأصنام ﴿إِلا شَيْطَـانًا مَّرِيدًا﴾ لأنه الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم عليها وكان طاعته في ذلك عبادة له.
قيل : كان في كل واحد من تلك الأوثان شيطان يتراءى للسدنة والكهنة يكلمهم.
وقال الزجاج : المراد بالشيطان ههنا إبليس بشهادة قوله تعالى بعد هذه الآية
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٨٥
﴿لاتَّخِذَنَّ﴾ وهو قول إبليس ولا يبعد أن الذي يتراءى للسدنة هو إبليس والمريد هو الذي لا يعلق بخير فقيل : من مرد أي تجرد للشر وتعرى من الخير يقال شجرة مرداء أي : لا ورق عليها وغلام أمرد إذا لم يكن على وجهه شعر ﴿لَّعَنَهُ اللَّهُ﴾ صفة ثانية للشيطان أي أبعده من رحمته إلى عقابه بالحكم له بالخلود في جهنم ويسقط بهذا قول من قال كيف يصح أن يقال لعنه الله وهو في الدنيا لا يخلو من نعمة تصل إليه من الله تعالى في كل حال لأنه لا يعتد بتلك النعمة مع الحكم له بالخلود في النار.
﴿وَقَالَ﴾ عطف عليه أي شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنة الله وهذا القول الشنيع الصادر عنه عند اللعن الدال على فرط عداوته للناس فإن الواو الواقعة بين الصفات إنما تفيد مجرد الجمعية ﴿لاتَّخِذَنَّ﴾ هذه اللام واللامات الآتية كلها للقسم ﴿مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا﴾ أي : مقطوعاً واجباً قدّر لي وفرض وهو أي النصيب المفروض لإبليس كل من أطاعه فيما زين له من المعاصي.
قال الحسن : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون كما في حديث المشارق يقول الله تعالى أي
٢٨٦


الصفحة التالية
Icon