في يوم الموقف "يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك فيقول أخرج بعث النار" يعني : ميز أهلها والبعث بمعنى المبعوث "قال وما بعث النار" ما هنا بمعنى كم العددية ولذا أجيب عنها بالعدد "قال" أي الله تعالى :"من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون قال النبي عليه السلام فذلك التقاول حين يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها" كنايتان عن شدة أهوال يوم القيامة "وترى الناس سكارى" أي من الخوف "وما هم بسكارى" أي من الخمر "ولكن عذاب الله شديد قال" أي الراوي واشتد ذلك عليهم فقالوا : يا رسول الله أينا ذلك الرجل الباقي من الألف؟ فقال :"أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج ألفا ومنكم رجلاً" والخطاب للصحابة وغيرهم من المؤمنين ثم قال :"والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة" قال الراوي فحمدنا الله وكبرنا ثم قال :"والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة" فحمدنا الله وكبرنا ثم قال :"والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة" وترقى عليه السلام في حديث آخر من النصف إلى الثلثين وقال :"إن أهل الجنة مائة وعشرون صنفاً وهذه الأمة منها ثمانون إن مثلكم في الأمم" أي الكفرة "كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود"(١) فلا يستبعد دخول كل المؤمنين الجنة.
فإن قيل : كيف علم إبليس أنه يتخذ من عباد الله نصيباً.
قيل فيه أجوبة : منها أن الله تعالى لما خاطبه بقوله :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٨٥
﴿لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ (هود : ١١٩) علم إبليس أنه ينال من ذرية آدم ما يتمناه.
ومنها أنه لما وسوس لآدم فنال منه طمع في ذريته.
ومنها أن إبليس لما عاين الجنة والنار علم أن لها سكاناً من الناس ﴿وَلاضِلَّنَّهُمْ﴾ عن الحق وإضلاله وسواس ودعاء إلى الباطل ولو كان إليه شيء من الضلالة سوى الدعاء إليها لأضل جميع الخلق ولكنه لما قال عليه السلام في حقه "خلق إبليس مزيناً وليس إليه من الضلالة شيء" يعني : أنه يزين للناس الباطل وركوب الشهوات ولا يخلق لهم الضلالة ﴿وَلامَنِّيَنَّهُمْ﴾ الأماني الباطلة بأن يخيل للإنسان إدراك ما يتمناه من المال وطول العمر.
وقيل يمني الإنسان أي يوهمه أنه لا جنة ولا نار ولا بعث ولا عقاب ولا حساب.
وقيل بأنه يوهمه أنه ينال في الآخرة حظاً وافراً من فضل الله ورحمته ﴿وَلامُرَنَّهُمْ﴾ بالبتك أي القطع والشق ﴿فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ الانْعَـامِ﴾ أي فليقطعنها بموجب أمري ويشقنها من غير تلعثم في ذلك ولا تأخير يقال بتكه أي قطعه ونقل إلى بناء التفعيل أي التبتيك للتكثير.
وأجمع المفسرون على أن المراد به ههنا قطع آذان البحائر والسوائب والأنعام الإبل والبقر والغنم أي لاحملنهم على أن يقطعوا آذان هذه الأشياء ويحرموها على أنفسهم بجعلها للأصنام وتسميتها بحيرة وسائبة ووصيلة وحامياً وكان أهل الجاهلية إذا أنتجت ناقة أحدهم خمسة أبطن وكان آخرها ذكر أبحروا اذنها وامتنعوا من ركوبها وحلبها وذبحها ولا تطرد عن ماء ولا تمنع عن مرعى وإذا لقيها المعيى لم يركبها وقيل : كانوا يفعلون ذلك بها إذا ولدت سبعة أبطن والسائبة المخلاة تذهب حيث شاءت وكان الرجل منهم يقول : إن شفيت فناقتي سائبة أو يقول : إن قدم غائبي من السفر أو إن وصلت إلى وطني أو إن ولدت امرأتي ذكراً أو نحو ذلك فناقتي سائبة فكانت كالبحيرة وكذا من كثر ماله بسبب واحدة منها تكرّ ما وكانت لا ينتفع بشيء منها ولا تمنع عن ماء ومرعي إلى أن تموت فيشترك
٢٨٧
في أكلها الرجال والنساء.
والوصيلة هي من الغنم إذا ولدت سبعة أبطن فإن كان الولد السابع ذكرا ذبحوه لآلتهم وكان لحمه للرجال دون النساء وإن كان أنثى كانوا يستعملونها وكانت بمنزلة سائر الغنم وإن كان ذكراً وأنثى قالوا : إن الأخت وصلت أخاها فلا يذبحون أخاها من أجلها وجرى مجرى السائبة وكانت المنفعة للرجال دون النساء فهي فعيلة بمعنى فاعلة والحامي هو البعير الذي ولد ولد ولده وقيل هو الفحل من الإبل إذا ركب ولد ولده قالوا له : إنه قد حمى ظهره فيهمل ولا يركب ولا يمنع عن الماء والمرعى وإذا مات يأكله الرجال والنساء ﴿وَلامُرَنَّهُمْ﴾ بالتغيير ﴿فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ عن نهجه صورة وصفة.
ويندرج فيه أمور :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٨٥
منها فقىء عين الحامي وكانت العرب إذا بلغت إبل أحدهم الفا عوّروا عين فحلها والحامي الفحل الذي طال مكثه عندهم.
ومنها خصاء العبيد وعموم اللفظ يمنع الخصاء مطلقاً لكن الفقهاء رخصوا في خصاء البهائم لمكان الحاجة ومنعوه في بني آدم وعند أبي حنيفة يكره شراء الخصيان واستخدامهم لأن الرغبة فيهم تدعو إلى خصائهم.
قال في "نصاب الاحتساب" : قرأت في بعض الكتب أن معاوية دخل على النساء ومعه خصي مجبوب فنفرت منه امرأة فقال معاوية : إنما هو بمنزلة امرأة فقال : أترى أن المثلة فيه قد أحلت ما حرم الله من النظر فتعجب من فطنتها وفقهها.