فنبه سبحانه وتعالى على أن الشيطان إنما يعد ويمني لأجل أن يغر الإنسان ويخدعه ويفوت عنه أعز المطالب وأنفع المآرب.
فالعاقل من لا يتبع وسواس الشيطان ويبتغي رضى الرحمن بالتمسك بكتابه العظيم وسنن رسوله الكريم والعمل بهما ليفوز فوزاً عظيماً وكفى بذلك نصيحة ﴿أولئك﴾ إشارة إلى أولياء الشيطان وهو مبتدأ أي : مستقرهم وهو مبتدأ ثان ﴿جَهَنَّمَ﴾ خبر للثاني والجملة خبر للأول ﴿وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا﴾ أي : معدلاً ومهرباً من حاص يحيص إذا عدل وعنها متعلق بمحذوف وقع حالاً من محيصاً أي كائناً عنها ولا يجوز أن يتعلق بيجدون لأنه لا يتعدى بعن ولا بقوله محيصاً لأنه إما إسم مكان وهو لا يعمل مطلقاً وإما مصدر ومعمول المصدر لا يتقدم عليه.
والإشارة أن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً وهم السعداء وخلق النار وخلق لها أهلاً وهم الأشقياء وخلق الشيطان مزيناً وداعياً وآمراً بالهوى فمن يرى حقيقة الاضلال ومشيئته من إبليس فهو إبليس وقد قال تعالى :﴿يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ﴾ (النحل : ٩٣)
٢٨٩
والنصيب المفروض من العباد هم طائفة خلقهم الله تعالى أهل النار كقوله تعالى :﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالانسِ﴾ (الأعراف : ١٧٩) وهم أتباع الشيطان ههنا وقد لعن الله الشيطان وأبعده عن الحضرة إذ كان سبب ضلالتهم كما قال عليه السلام :"الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه" وإنما لعن الله الدنيا وأبغضها لأنها كانت سبباً للضلالة وكذلك الشيطان ولا يغتر بوعد الشيطان إلا الضال بالضلال البعيد الأزلي ولذا تولد منه الشرك المقدر بمشيئة الله الأزلية.
وأما من خلقه الله أهلاً للجنة فقد غفر له قبل أن خلقه ومن غفر له فإنه لا يشرك بالله شيئاً.
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لما نزل قوله تعالى :﴿وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ﴾ (الأعراف : ١٥٦) تطاول إبليس وقال : أنا شيء من الأشياء فلما نزل ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ﴾ (الأعراف : ١٥٦) يئس إبليس وتطاولت اليهود والنصارى ثم لما نزل قوله تعالى :﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الامِّىَّ﴾ (الأعراف : ١٥٦) يئس اليهود والنصارى وبقيت الرحمة للمؤمنين خاصة فهم خلقوا للرحمة ودخلوا الجنة بالرحمة ولهم الخلود في الرحمة وبقي العذاب للشيطان وأتباعه من الإنس والجن ولهم الخلود في النار كما قال الله تعالى :﴿وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا﴾ لأنهم خلقوا لها فلا بد من الدخول فيها، قال الحافظ :
ير ما كفت خطا بر قلم صنع نرفت
آفرين بر نظر اك خطا وشش باد
فافهم تفز إن شاء الله تعالى.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٨٥
﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾ صلاح الأعمال في إخلاصها فالعمل الصالح هو ما أريد به وجه الله تعالى وينتظم جميع أنواعه من الصلاة والزكاة وغيرهما ﴿سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ﴾ أي : أنهار الماء واللبن والخمر والعسل ﴿خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا﴾ أي : مقيمين في الجنة إلى الأبد فنصب أبدا على الظرفية وهو لاستغراق المستقبل.
قال الحدادي : إنما ذكر الطاعة مع الإيمان وجمع بينهما فقال : آمنوا وعملوا الصالحات ليتبين بطلان توهم من يتوهم أنه لا تضر المعصية والإخلال بالطاعة مع الإيمان كما لا تنفع الطاعة مع الكفر وليتبين استحقاق الثواب على كل واحد من الأمرين ﴿وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا﴾ أي : وعد الله لهم هذا وعداً وحق ذلك حقاً فالأول مؤكد لنفسه لأنه مضمون الجملة الإسمية التي قبل وعد لأن الوعد عبارة عن الإخبار بإيصال المنفعة قبل وقوعها والثاني مؤكد لغيره لأن الخبر من حيث أنه خبر يحتمل الصدق والكذب ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا﴾ استفهام إنكاري أي ليس أحد أصدق من الله قولاً ووعداً وأنه تعالى أصدق من كل قائل فوعده أولى بالقبول ووعد الشيطان تخييل محض ممتنع الوصول.
وقيلاً نصب على التمييز والقيل والقال مصدران كالقول ﴿لَّيْسَ بِأَمَـانِيِّكُمْ﴾ جمع أمنية بالفارسية "آرزو كردن" ﴿وَلا أَمَانِىِّ أَهْلِ الْكِتَـابِ﴾ أي : ليس ما وعد الله من الثواب يحصل بأمانيكم أيها المسلمون ولا بأماني أهل الكتاب وإنما يحصل بالإيمان والعمل الصالح.
وأماني المسلمين : أن يغفر لهم جميع ذنوبهم من الصغائر والكبائر ولا يؤاخذوا بسوء بعد الإيمان.
وأماني أهل الكتاب أن لا يعذبهم الله ولا يدخلهم النار إلا أياماً معدودة لقولهم ﴿نَحْنُ أَبْنَـاؤُا اللَّهِ وَأَحِبَّـاؤُهُ﴾ (المائدة : ١٨) فلا يعذبنا.
وعن الحسن "ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل" إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم وقالوا : نحسن الظن بالله وكذبوا لو أحسنوا الظن بالله لأحسنوا العمل.
قال بعضهم : الرجاء
٢٩٠