والإشارة ﴿لَّيْسَ بِأَمَـانِيِّكُمْ﴾ يعني : بأماني عوام الخلق الذين يذنبون ولا يتوبون ويطمعون أن يغفر الله لهم والله تعالى يقول :﴿وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا﴾ ﴿وَلا أَمَانِىِّ أَهْلِ الْكِتَـابِ﴾ يعني : العلماء السوء الذين يغرون الخلق بالرجاء المذموم ويقطعون عليهم طريق الطلب والجد والاجتهاد ﴿مَن يَعْمَلْ سُواءًا يُجْزَ بِهِ﴾ في الحال بإظهار الرين على مرآة قلبه بعد الذنب كما قال عليه السلام :"إذا أذنب عبد ذنباً نكت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب ورجع منه صقل" ﴿وَلا يَجِدْ لَه مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا﴾ يخرجه من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة بالتوبة ﴿وَلا نَصِيرًا﴾ سوى الله ينصره بالظفر على النفس الأمارة فيزكيها عن صفاتها وعلى الشيطان فيدفع شره وكيده ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّـالِحَـاتِ﴾ أي : الخالصات ﴿مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى﴾ يشير بالذكر إلى القلب وبالأنثى إلى النفس ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ مخلص في تلك الأعمال ﴿فأولئك يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾ المعنى : أن القلب إذا عمل بما وجب عليه من التوجه إلى العالم العلوي والإعراض عن العالم السفلي وغض البصر عن سوى الحق يستوجب دخول جنة القربة والوصلة والنفس إذا عملت بما وجب عليها من الانتهاء عن هواها وترك حظوظها وأداء حقوق الله تعالى في العبودية واطمأنت بها تستحق الرجوع إلى ربها والدخول في جنة عالم الأرواح كما قال تعالى :﴿يا أيتها النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾ ﴿وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ فيما قدر لهم الله من الأعمال الصالحات ولا من الدرجات والقربات فليس من تمنى نعمته من غير أن يتعنى في خدمته كمن تعني في خدمته من غير أن يتمنى نعمته وأن بينهما بوناً بعيداً من أعلى مراتب القرب إلى أسفل سافلين البعد كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٩٠
﴿وَمَنْ﴾ استفهام إنكاري ﴿أَحْسَنُ دِينًا﴾ الدين والملة متحدان بالذات ومختلفان بالاعتبار فإن الشريعة من حيث أنها يطاع لها دين ومن حيث أنها تملي وتكتب ملة والإملال بمعنى الإملاء ﴿مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ﴾ أي : جعل نفسه وذاته سالمة خالصةتعالى بأن لم يجعل لأحد حقاً فيها لا من جهة الخالقية والمالكية ولا من جهة العبودية والتعظيم.
وقوله ديناً نصب على التمييز من أحسن منقول من المبتدأ والتقدير ومن دينه أحسن من دين من أسلم الخ فالتفضيل في الحقيقة جاربين الدينين لا بين صاحبيهما ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ الجملة حال من فاعل اسم أي : والحال أنه آتتٍ بالحسنات تارك للسيآت وقد فسره النبي عليه السلام بقوله :"أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" والإحسان حقيقة الإيمان.
واعلم أن دين الإسلام مبني على أمرين : الاعتقاد والعمل فالله سبحانه أشار إلى الأول بقوله :﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ﴾ وإلى الثاني بقوله :﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ أي : في الانقياد لربه بأن يكون آتياً بجميع ما كلفه به على وجه الإجلال والخشوع.
﴿وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ الموافقة لدين الإسلام المتفق على
٢٩٢
صحتها وقبولها بين الأديان كلها بخلاف ملة موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام ﴿حَنِيفًا﴾ حال من فاعل اتبع أي : مائلاً عن الأديان الزائغة ثم إن الله تعالى رغب في اتباع ملته فقال :﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا﴾ أي : اصطفاه وخصصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله والخلة من الخلال فإنه ودّ تخلل النفس وخالطها ﴿وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ﴾ كأنه قيل : لِمَ خص الله تعالى إبراهيم عليه السلام بالخلة وله عباد مكرمون؟ فأجاب بأن جميع ما في السموات وما في الأرض من الموجودات له تعالى خلقاً وملكاً يختار منها ما يشاء ومن يشاء ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطًا﴾ إحاطة علم وقدرة فكل واحد من علمه وقدرته محيط بجميع ما يكون داخلاً فيهما وما يكون خارجاً عنهما ومغايراً لهما مما لا نهاية له من الصدورات الخارجة عن هذه السموات والأرضين.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٩٢