﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ﴾ أي يطلبون منك الفتوى واشتقاق الفتوى من الفتى وهو الشاب القوي الحدث لأنها جواب في حادثة وإحداث حكم أو تقوية لبيان مشكل ﴿فِى﴾ حق توريث ﴿النِّسَآءِ﴾ إذ سبب نزولها أن عيينة بن حصين أتى النبي عليه السلام فقال : أخبرنا أنك تعطي الابنة النصف والأخت النصف وإنما كنا نورث من يشهد القتال ويحوز الغنيمة فقال عليه السلام :"كذلك أمرت" ﴿قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾ يبين لكم حكمه في حقهن والافتاء تبيين المبهم وتوضيح المشكل ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَـابِ﴾ عطف على اسم الله أي : يفتيكم الله وكلامه فيكون الافتاء مسنداً إلى الله وإلى ما في القرآن من قوله :﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَـادِكُمْ﴾ في أوائل هذه السورة ونحوه والفعل الواحد ينسب إلى فاعلين بالاعتبارين كما يقال أغناني زيد وعطاؤه فإن المسند إليه في الحقيقة شيء واحد وهو المعطوف عليه إلا أنه عطف عليه شيء من أحواله للدلالة على أن الفعل إنما قام بذلك الفاعل باعتبار اتصافه بتلك الحال ﴿فِى﴾ شأن ﴿يَتَـامَى النِّسَآءِ﴾ متعلق بيتلى كما أن في الكتاب متعلق به أيضاً والإضافة بمعنى من لأنها إضافة الشيء إلى جنسه ﴿الَّـاتِى لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾ أي : فرض لهن من الميراث وغيره ﴿وَتَرْغَبُونَ﴾ عطف على لا تؤتونهن عطف جملة مثبتة على جملة منفية ﴿أَن تَنكِحُوهُنَّ﴾ أي : في نكاحهن لجمالهن وما لهن وترغبون عن نكاحهن أي : تعرضون لقبحهن وفقرهن فإن كانت اليتيمة جميلة موسرة رغب وليها في تزوجها وإلا رغب عنها وما يتلى في حقوقهن قوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٩٤
﴿وَءَاتُوا الْيَتَـامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ (النساء : ٢) وقوله تعالى :﴿وَلا تَأْكُلُوهَآ﴾ (النساء : ٢) ونحوها من النصوص الدالة على عدم التعرض لأموالهم في ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾ عطف على يتامى النساء والعرب ما كانوا يورثونهم كما لا يورثون النساء وإنما يورثون الرجال القوامين بالأمور في
٢٩٤
﴿وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَـامَى﴾ في أموالهم وحقوقهم ﴿بِالْقِسْطِ﴾ أي : العدل وهو أيضاً عطف على يتامى النساء وما يتلى في حقهم قوله تعالى :﴿وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِا وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ (النساء : ٢) ونحو ذلك ﴿وَمَآ﴾ شرطية ﴿تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ على الإطلاق سواء كان في حقوق المذكورين أو غيرهم ﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِه عَلِيمًا﴾ فيجازيكم بحسبه.
فعلى العاقل أن يطيع الله تعالى فيما أمر ولا يأكل مال الغير بل يجتهد في أن ينفق ما قدر عليه على اليتامى والمساكين.
قال حاتم الأصم : من ادعى ثلاثاً بغير ثلاث فهو كذاب.
من ادعى حب الجنة من غير إنفاق ماله فهو كذاب.
ومن ادعى محبة الله من غير ورع عن محارم الله فهو كذاب.
ومن ادعى محبة النبي عليه السلام من غير محبة الفقراء فهو كذاب وفي قوله تعالى :﴿وَمَا تَفْعَلُوا﴾ حث على فعل الخير وترغيب.
ـ حكي ـ أن امرأة جاءت إلى حانوت أبي حنيفة تريد شراء ثوب فأخرج أبو حنيفة ثوباً جديداً قيمته أربعمائة درهم فقالت المرأة : إني امرأة ضعيفة ولي بنت أريد تسليمها إلى زوجها فبعني هذا الثوب بما يقوم عليك فقال أبو حنيفة : خذيه بأربعة دراهم فقالت المرأة : لِمَ تسخر بي؟ فقال أبو حنيفة معاذ الله أن أكون من الساخرين ولكني كنت اشتريت ثوبين فبعت أحدهما برأس المال الذي نقدت في الثوبين إلا أربعة دراهم فبقي هذا علي بأربعة دراهم فأخذت المرأة الثوب بأربعة دراهم ورجعت مستبشرة فرحة، قال السعدي قدس سره :
بكير اي جوان دست درويش ير
نه خودرا بيكفن كه دستم بكير
كسى نيك بودي بهر دو سراي
كه نيكي رساند بخلق خداي
واعلم أن النفس بمثابة المرأة لزوجها الروح فكما أوجب الله على الرجال من الحقوق للنساء فكذلك أوجب على العبد الطالب الصادق من الحقوق للنفس كما قال عليه السلام لعبد الله بن عمر حين جاهد نفسه بالليل بالقيام وبالنهار بالصيام "إن لنفسك عليك حقاً فصم وأفطر وقم ونم" والرياضة الشديدة تقطع عن السير قال عليه السلام :"إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق" يريد لا تحملوا على أنفسكم ولا تكلفوها ما لا تطيق فتعجز فتترك الدين والعمل.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٩٤
اسب تازي دوتك همي ماند
شتر آهسته ميرود شب وروزي
وكان النبي عليه الصلاة والسلام يتوسط في إعطاء نفسه حقها ويعدل فيها غاية العدل فيصوم ويفطر ويقوم وينام وينكح النساء ويأكل في بعض الأحيان ما يجد كالحلوى والعسل والدجاج وتارة يجوع حتى يشد الحجر على بطنه من الجوع.
فيا أيها الغافل تنبه لرحيلك ومسراك واحذر أن تسكن إلى موافقة هواك انتقل إلى الصلاح قبل أن تنقل وحاسب نفسك على ما تقول وتفعل فإن الله سبحانه بكل شيء عليم وبكل شيء محيط فإياك من الإفراط والتفريط.


الصفحة التالية
Icon