﴿فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا﴾ يحتمل العدل والعدول أي فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا بين الناس أو إرادة أن تعدلوا عن الحق ﴿وَإِن تَلْوُا﴾ ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل بأن تأتوا بها لا على وجهها ليّ الشيء فتله وتحريفه ولي الشهادة تبديلها وعدم أدائها على ما شاهده بأن يميل فيها إلى أحد الخصمين ﴿أَوْ تُعْرِضُوا﴾ أي : عن أدائها وإقامتها رأساً فالإعراض عنها كتمها ﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من ليّ الألسنة والإعراض بالكلية ﴿خَبِيرًا﴾ فيجازيكم لا محالة عن ذلك.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالآية القاضي يتقدم عليه الخصمان فيعرض عن أحدهما أو يدافع في إمضاء الحق أو لا يسوي بينهما في المجلس والنظر والإشارة ولا يمتنع أن يكون المراد بالآية القاضي والشاهد وعامة الناس فإن اللفظ محتمل للجميع.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال عند نزول هذه الآية "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقم شهادته على من كانت ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجحد حقاً هو عليه وليؤده فوراً ولا يلجئه إلى سلطان وخصومة ليقطع بها حقه وأيما رجل خاصم إلي فقضيت له على أخيه بحق ليس عليه فلا يأخذنه فإنما أقطع له قطعة من نار جهنم" كذا في "تفسير الحدادي".
قال في "الأشباه" أي شاهد جاز له الكتمان؟ فقل : إذا كان الحق يقوم بغيره أو كان القاضي فاسقاً أو كان يعلم أنه لا يقبل انتهى.
قال الفقهاء : وستر الشهادة في الحدود أفضل من أدائها لقوله عليه السلام للذي شهد عنده في الحد "لو سترته بثوبك
٣٠١
لكان خيراً لك" وقوله عليه السلام :"من ستر على مسلم عيباً ستر الله عليه في الدنيا والآخرة" وقال عليه السلام :"ما من امرىء ينصر مسلماً في موضع ينهتك فيه عرضه وتستحل حرمته إلا نصره الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته وما من امرىء خذل مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته إلا خذله الله تعالى في موضع يحب فيه نصرته" وقال عليه السلام :"ادرأوا الحدود ما استطعتم".
ـ يحكى ـ أن مسلماً قتل ذمياً عمداً فحكم أبو يوسف بقتل المسلم فبلغ زبيدة امرأة هارون الرشيد فبعثت إلى أبي يوسف وقالت : إياك أن تقتل المسلم وكانت في عناية عظيمة بأمر المسلم فلما حضر أبو يوسف وحضر الفقهاء وجيىء بأولياء الذمي والمسلم وقال له الرشيد : احكم بقتله فقال : يا أمير المؤمنين هو مذهبي غير أني لست أقتل المسلم به حتى تقوم البينة العادلة أن الذمي يوم قتله المسلم كان ممن يؤدي الجزية فلم يقدروا عليه فبطل دمه :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٠٠
توروا داريكه من بي حجتي
بنهم اندر شهر باطل سنتي
وفي قوله تعالى :﴿شُهَدَآءَ لِلَّهِ﴾ إشارة إلى عوام المؤمنين أن كونوا شهداء الله بالتوحيد والوحدانية بالقسط يوماً ما ولو كان في آخر نفس من عمرهم على حسب ما قدر لهم الله تعالى.
وإشارة إلى الخواص أن كونوا شهداءأي حاضرين مع الله بالفردانية.
وإشارة إلى خواص الخواص أن كونوا شهداءفي الله غائبين عن وجودكم في شهوده بالوحدة.
وفي إشارته إلى الخواص شركة للملائكة كما قال تعالى :﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّه لا إله إِلا هُوَ والملائكة وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَآا ِمَا بِالْقِسْطِ﴾ (آل عمران : ١٨) فأما إشارته إلى الأخص من الأنبياء وكبار الأولياء وهم أولوا العلم فمختصة بهم من سائر العالمين ولأولي العلم شركة في شهود شهد الله أنه لا إله إلا هو وليس للملائكة في هذا الشهود مدخل إلا أنهم قائمون بالقسط كذا في "التأويلات النجمية".
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} خطاب لكافة المسلمين ﴿بِاللَّهِ وَرَسُولِه وَالْكِتَابِ الَّذِى نَزَّلَ عَلَى رَسُولِه وَالْكِتَابِ الَّذِى أَنَزَلَ مِن قَبْلُا وَمَن﴾ أي : اثبتوا على الإيمان بذلك ودوموا عليه وازدادوا فيه طمأنينة ويقيناً أو آمنوا بما ذكر مفصلاً بناء على أن إيمان بعضهم إجمالي.
فإن قلت : لم قيل نزل على رسوله وأنزل من قبل.
قلت : لأن القرآن نزل منجماً مفرقاً بخلاف الكتب قبله فالمراد بالكتاب الأول القرآن وبالثاني الجنس المنتظم لجميع الكتب السماوية لقوله تعالى :﴿وَكُتُبِهِ﴾ (البقرة : ٢٨٥) وبالإيمان به الإيمان بأن كل كتاب من تلك الكتب منزل منه على رسول معين لإرشاد أمته إلى ما شرع لهم من الدين بالأوامر والنواهي لكن لا على أن يراد الإيمان بكل واحد من تلك الكتب بل خصوصية ذلك الكتاب ولا على أن أحكام تلك الكتب وشرائعها باقية بالكلية ولا على أن الباقي منها معتبر بالإضافة إليها بل على أن الإيمان بالكل مندرج تحت الإيمان بالكتاب المنزل على رسوله وأن أحكام كل منها كانت حقة ثابتة إلى ورود نسخها وأن ما لم ينسخ منها إلى الآن من الشرائع والأحكام ثابتة من حيث أنها من أحكام هذا الكتاب الجليل المصون عن النسخ والتبديل.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٠٠