وقيل : الخطاب للمنافقين كأنه قيل : يا أيها الذين آمنوا نفاقاً وهو ما كان بالألسنة فقط آمنوا إخلاصاً وهو ما كان بها وبالقلوب.
وقيل الخطاب لمؤمني أهل الكتاب إذ روي أن ابن سلام وأصحابه قالوا : يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه فنزلت فالمعنى حينئذٍ آمنوا
٣٠٢
إيماناً عاماً شاملاً يعم الكتب والرسل فإن الإيمان بالبعض كلا إيمان.
﴿وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وملائكته وَكُتُبِه وَرُسُلِه وَالْيَوْمِ الاخِرِ﴾ أي : بشيء من ذلك لأن الكفر ببعضه كفر بكله ألا ترى كيف قدم الأمر بالإيمان بهم جميعاً وزيادة الملائكة واليوم الآخر في جانب الكفر لما أنه بالكفر بأحدها لا يتحقق الإيمان أصلاً وجمع الكتب والرسل لما أن الكفر بكتاب أو برسول كفر بالكل وتقديم الرسول فيما سبق لذكر الكتاب بعنوان كونه منزلاً عليه وتقديم الملائكة والكتب على الرسل لأنهم وسائط بين الله وبين الرسل في إنزال الكتب.
﴿فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـا بَعِيدًا﴾ عن المقصد بحيث لا يكاد يعود إلى طريقه.
قالوا : أول ما يجب على المرء معرفة مولاه أي يجب على كل إنسان أن يسعى في تحصيل معرفة الله تعالى بالدليل والبرهان فإن إيمان المقلد وإن كان صحيحاً عند الإمام الأعظم لكن يكون آثماً بترك النظر والاستدلال فأول الأمر هو الحجة والبرهان ثم المشاهدة والعيان ثم الفناء عن سوى الرحمان.
فمرتبة العوام في الإيمان ما قال عليه السلام :"أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالبعث بعد الموت والجنة والنار والقدر خيره وشره" وهو إيمان غيبي، وفي "المثنوي" :
بندكى درغيب آيد خوب وكش
حفظ غيب آيددر استبعاد خوش
طاعت وإيمان كنون محمود شد
بعد مرك اندر عيان مردود شد
ومرتبة الخواص في الإيمان هو إيمان عياني وكان ذلك بأن الله إذا تجلى لعبده بصفة من صفاته خضع له جميع وجوده وآمن بالكلية عياناً بعدما كان يؤمن قلبه بالغيب ونفسه تكفر بما آمن به قلبه إذا كانت النفس عن تنسم روائح الغيب بمعزل فلما تجلى الحق للجبل جعله دكاً وخر موسى النفس صعقاً فالنفس في هذا المقام تكون بمنزلة موسى فلما أفاق قال : تبت إليك وأنا أول المؤمنين.
ومرتبة الأخص في الإيمان هو إيمان عياني وذلك بعد رفع حجب الأنانية بسطوات تجلي صفة الجلال فإذا أفناه عنه بصفة الجلال يبقيه به بصفة الجمال فلم يبقَ له الأين وبقي في العين فيكون إيماناً عينياً كما كان حال النبي عليه السلام ليلة المعراج فلما بلغ قاب قوسين كان في حيزأين فلما جذبته العناية من كينونته إلى عينونة أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحي آمن الرسول بما أنزل إليه أي من صفات ربه فآمنت صفاته بصفاته تعالى وذاته بذاته فصار كل وجوده مؤمناً بالله إيماناً عينياً ذاته وصفاته فأخبر عنهم وقال : والمؤمنون كل آمن بالله يعني آمنوا بهوية وجودهم كذا في "التأويلات النجمية" هذا هو الإيمان الحقيقي رزقنا الله وإياكم إياه، وفي "المثنوي" :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٠٠
بود كبرى ردزمان بايزيد
كفت اورايك مسلمان سعيد
كه ه باشد كرتو اسلام آورى
تابيابى صد نجات وسرورى
كفت اين ايمان اكرهست اي مريد
آنكه دارد شيخ عالم بايزيد
من ندارم طاقت آن تاب آن
كان فزون آمدز كو ششهاى جان
كره درايمان ودين ناموقنم
ليك درايمان اوبس مومنم
مؤمن ايمان اويم در نهان
كره مهرم هست محكم بردهان
بازايمان خود كر ايمان شماست
نى بدان ميلستم ونى مشتهاست
٣٠٣
آنكه صد ميلش سوى ايمان بود
ون شمارا ديد زان فاترشود
زانكه نامى بيند ومعنيش نى
ون بيابانرا مفازه كفتنى
وإلى هذا التجريد والتفريد ينال العبد بالذكر والتوحيد قال عليه السلام في وصيته لعلي ـ رضي الله عنه ـ "يا علي احفظ التوحيد فإنه رأس مالي والزم العمل فإنه حرفتي وأقم الصلاة فإنها قرة عيني واذكر الحق فإنه نصرة فؤادي واستعمل العلم فإنه ميراثي" اللهم لا تحرمنا من هذا الميراث.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٠٠