﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا﴾ يعني : اليهود بموسى ﴿ثُمَّ كَفَرُوا﴾ بعبادتهم العجل ﴿ثُمَّ ءَامَنُوا﴾ بعد عوده إليهم ﴿ثُمَّ كَفَرُوا﴾ بعيسى والإنجيل ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ بكفرهم بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وازداد كذا يجيىء لازماً ومتعدياً يقال : ازددت مالاً أي زدته لنفسي ومنه قوله تعالى :﴿وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾ (الكهف : ٢٥) ﴿لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ﴾ مريداً ﴿لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ أي ما داموا على كفرهم ﴿وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِي﴾ أي ولا ليوفقهم طريقاً إلى الإسلام ولكن يخذلهم مجازاة لهم على كفرهم.
فإن قيل : إن الله لا يغفر كفر مرة فما الفائدة في قوله :﴿ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا﴾.
قيل : إن الكافر إذا آمن غفر له كفره فإذا كفر بعد إيمانه لم يغفر له الكفر الأول وهو مطالب بجميع كفرهم ﴿بَشِّرِ الْمُنَـافِقِينَ﴾ وضع بشر موضع انذر وأخبر تهكماً بهم ﴿بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ أي : وجيعاً يخلص ألمه ووجعه إلى قلوبهم وهذا يدل على أن الآية نزلت في المنافقين وهم قد آمنوا في الظاهر وكفروا في السر مرة بعد أخرى ثم ازدادوا بالإصرار على النفاق وإفساد الأمر على المؤمنين
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٠٤
﴿الَّذِينَ﴾ أي : هم الذين ﴿يَتَّخِذُونَ الْكَـافِرِينَ﴾ أي اليهود ﴿أَوْلِيَآءَ﴾ أحباء في العون والنصرة ﴿مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ حال من فاعل يتخذون أي متجاوزين ولاية المؤمنين المخلصين وكانوا يوالونهم ويقول بعضهم لبعض لا يتم أمر محمد فتولوا اليهود ﴿أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ﴾ أي : أيطلبون بموالاة الكفرة القوة والغلبة وهم أذلاء في حكم الله تعالى :﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ تعليل لما يفيده الاستفهام الإنكاري من بطلان رأيهم وخيبة رجائهم فإن انحصار جميع أفراد العزة في جنابه تعالى بحيث لا ينالها إلا أولياؤه الذين كتب لهم العزة والغلبة وقال :﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِه وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (المنافقون : ٨) يقتضي بطلان التعزيز بغيره سبحانه واستحالة الانتفاع به.
قوله جميعاً حال من المستكن في قوله تعالىلاعتماده على المبتدأ ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ﴾ خطاب للمنافقين بطريق الالتفات والجملة حال من فاعل يتخذون.
قال المفسرون : إن مشركي مكة كانوا يخوضون في ذكر القرآن ويستهزئون به في مجالسهم فأنزل الله تعالى في سورة الأنعام وهي مكية ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءَايَـاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ (الأنعام : ٦٨) ثم أن أحبار اليهود بالمدينة كانوا يفعلون ما فعله المشركون بمكة وكان المنافقون يقعدون معهم ويوافقونهم على ذلك الكلام الباطل فقال الله تعالى مخاطباً لهم ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ﴾ أي والحال أنه تعالى قد نزل عليكم قبل هذا بمكة.
وفيه دلالة على أن المنزل على النبي عليه السلام وإن خوطب به خاصة منزل على العامة ﴿فِى الْكِتَـابِ﴾ أي : القرآن الكريم.
﴿أَنِ﴾ مخففة أي : أن الشان ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى﴾ فيه دلالة على أن مدار الإعراض عنهم هو العلم بخوضهم في آيات الله ولذلك يخبر عنه تارة بالرؤية وأخرى بالسماع ﴿يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا﴾ حالان من آيات الله أي
٣٠٤
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٠٤
مكفوراً ومستهزءاً بها في محل الرفع لقيامه مقام الفاعل والأصل يكفر بها أحد ويستهزىء.
﴿فَلا تَقْعُدُوا﴾ جزاء الشرط ﴿مَعَهُمْ﴾ أي : الكفرة المدلول عليهم بقوله يكفر بها ويستهزأ بها ﴿حَتَّى يَخُوضُوا﴾ الخوض بالفارسية "در حديث شدن" ﴿فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ أي غير القرآن وحتى غاية للنهي والمعنى أنه تجوز مجالستهم عند خوضهم وشروعهم في غير الكفر والاستهزاء.
وفيه دلالة على أن المراد بالإعراض عنهم إظهار المخالفة بالقيام عن مجالسهم لا الإعراض بالقلب أو بالوجه فقط ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ﴾ جملة مستأنفة سيقت لتعليل النهي غير داخلة تحت التنزيل وإذن ملغاة عن العمل لاعتماد ما بعدها على ما قبلها أي : لوقوعها بين المبتدأ والخبر أي لا تقعدوا معهم في ذلك الوقت إنكم إن فعلتموه كنتم مثلهم أي مثل اليهود في الكفر واستتباع العذاب فإن الرضى بالكفر كفر ﴿إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَـافِقِينَ وَالْكَـافِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ يعني : القاعدين والمقعود معهم وهو تعليم لكونهم مثلهم في الكفر بيانه ما يستلزمه من شركتهم لهم في العذاب.
واعلم أن الائتلاف ههنا نتيجة تعارف الأرواح هنالك لقوله عليه السلام :"الأرواح جنود مجندة" الحديث فمن تعارف أرواح الكافر والمنافق هناك يأتلفون ههنا ومن تناكر أرواحهم وأرواح المؤمنين يختلفون ههنا.


الصفحة التالية
Icon