﴿وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَـافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا﴾ أي : ظهوراً يوم القيامة كما قد يجعل ذلك في الدنيا بطريق الابتلاء والاستدراج وبيانه أن الله تعالى يظهر أثر إيمان المؤمن يوم القيامة ويصدق موعدهم ولا يشاركهم الكفار في شيء من اللذات كما شاركوهم اليوم حتى يعلموا أن الحق معهم دونهم إذ لو شاركوهم في شيء منها لقالوا للمؤمنين : ما نفعكم إيمانكم وطاعتكم شيئاً لأنا أشركنا واستوينا معكم في ثواب الآخرة وأما إن كان المعنى سبيلاً في الدنيا فيراد بالسبيل الحجة وحجة المسلمين غالبة على حجة الكل وليس لأحد أن يغلبهم بالحجة وقيل : معنى السبيل الدولة الدائمة ولا دولة على الدوام للكافرين وإلا لكان الظهور والغلبة من قبلهم دائماً وليس كذلك فإن أكثر الظفر للمسلمين وإنما ينال الكفار من المؤمنين في بعض الأوقات استدراجاً ومكراً وهذا يستمر إلى انقراض أهل الإيمان في آخر الزمان.
وعن كعب قال : إذا انصرف عيسى بن مريم والمؤمنون من يأجوج ومأجوج لبثوا سنوات ثم رأوا كهيئة الرهج والغبار فإذا هي ريح قد بعثها الله لتقبض أرواح المؤمنين فتلك آخر عصابة تقبض من المؤمنين ويبقى الناس بعدهم مائة عام لا يعرفون ديناً ولا سنة يتهارجون تهارج الحمر عليهم تقوم الساعة وفي الحديث "الجهاد ماضضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال" ثم إن الله تعالى يحكم بينكم يوم القيامة ليعلم من أهل العزة والكرامة ومن أهل الغرة والندامة كما أن الشمع يحكم بين الصحيح والسقيم بإظهار حالهما إذا جيىء به في حمام مظلم قد دخله الأصحاء والمرضى ولجرحى ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً فإن وبال كيدهم إليهم مصروف
٣٠٦
وجزاء مكرهم عليهم موقوف والحق من قبل الحق تعالى منصور أهله والباطل بنصر الحق مخيب أصله.
وقد قيل : الباطل يفور ثم يغور.
فعلى المؤمن صرف علو الهمة في الدين وفي تحصيل علم اليقين ولا يتربص للفتوحات الدنيوية ذاهلاً عن الفتوحات الأخروية بل عن فتوحات الغيب ومشاهدة الحق فإن أهم الأمور هو الوصول إلى الرب الغفور.
قال أبو يزيد البسطامي قدس سره : إنخواص من عباده ولو حجبهم في الجنة عن رؤيته لاستغاثوا كما يستغيث أهل النار بالخروج من النار ولما كان موسى كليم الله طفلاً في حجر تربية الحق تعالى ما تجاوز حده ولا تعدى قصده بل قال : رب إني لما أنزلت إلى من خير فقير فلما كبر وبلغ مبلغ الرجال ما رضي بطعام الأطفال بل قال : رب أرني أنظر إليك وكان غاية طلبه في طفوليته هو الطعام والشراب وكان منتهى أربه في رجوليته هو رفع الحجاب ومشاهدة الأحباب فالباب مفتوح للطلاب لا حاجب عليه ولا بواب وإنما المحجوب عن المسبب من وقف مع الأسباب والمشروب حاضر والمحروم من حرم الشراب والمحبوب ناظر والمطرود من وقف وراء الحجاب فمن أنس بسواه فهو مستوحش ومن ذكر غيره فهو غافل عنه ومن عول على سواه فهو مشرك فإذا لم يجد إليه سبيلاً وفي ظله مقيلاً، ونعم ما قيل :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٠٦
تو محرم نيستي محروم ازاني
ره نا محرمان اندر حرم نيست
﴿إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ يُخَـادِعُونَ اللَّهَ﴾ أي : يفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر ﴿وَهُوَ خَـادِعُهُمْ﴾ أي الله تعالى فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع حيث تركهم في الدنيا معصومي الدماء والأموال وأعد لهم في الآخرة الدرك الأسفل من النار ولم يخلهم في العاجل من فضيحة وإحلال بأس ونقمة ورعب وإثم.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما إنهم يعطون نوراً يوم القيامة كما للمؤمنين فيمضي المؤمنون بنورهم على الصراط وينطفىء نور المنافقين فينادون المؤمنين انظرونا نقتبس من نوركم فتناديهم الملائكة عن الصراط ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً وقد علموا أنهم لا يستطيعون الرجوع قال : فيخاف المؤمنون حينئذٍ أن يطفأ نورهم فيقولون : ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير.
﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَواةِ قَامُوا كُسَالَى﴾ أي : متثاقلين متقاعسين كما ترى من يفعل شيئاً عن كره لا عن طيب نفس ورغبة.
قوله كسالى كأنه قيل : ما كسالى فقيل :﴿يُرَآءُونَ النَّاسَ﴾ أي يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة ليحسبوهم مؤمنين ﴿وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ﴾ عطف على يراءون ﴿إِلا﴾ ذكراً ﴿قَلِيلا﴾ إذ المرائى لا يفعل إلا بحضرة من يرائيه وهو أقل أحواله والمراد بالذكر التسبيح والتهليل.
قال في الكشاف : وهكذا ترى كثيراً من المتظاهرين بالإسلام لو صحبته الأيام والليالي لم تسمع منه تهليلة ولا تحميدة ولكن حديث الدنيا يستغرق أوقاته لا يفتر عنه.


الصفحة التالية
Icon