فبالشكر والإيمان يتخلص المرء من النيران وإلا فقد عرض نفسه للعذاب واستحق العذاب والعتاب وجه التعذيب أن التأديب في الحكمة واجب فخلق الله النار ليعلم الخلق قدر جلال الله وكبريائه وليكونوا على هيبة وخوف من صنع جلاله ويؤدب بها من لم يتأدب بتأديب رسله إلى خلقه وليعتبر أهل العقل بالنظر إليها في الدنيا وبالاستماع لها في الآخرة ولهذا السر علق النبي عليه السلام السوط حيث يراه أهل البيت لئلا يتركوا الأدب.
ـ روي ـ أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام :(ما خلقت النار بخلا مني ولكن أكره أن أجمع أعدائي وأوليائي في دار واحدة) وأدخل الله بعض عصاة المؤمنين النار ليعرفوا قدر الجنة ومقدار ما دفع الله عنهم من عظيم النقمة لأن تعظيم النعمة واجب في الحكمة.
والإشارة في الآية أن الله تعالى يذكر للعباد المؤمنين نعماً من نعمه السالفة السابقة، منها إخراجهم من العدم
٣١١
ببديع فطرته، ومنها أنه خلق أرواحهم قبل خلق الأشياء، ومنها أنه خلق أرواحهم نورانية بالنسبة إلى خلق أجسادهم الظلمانية، ومنها أن أرواحهم لما كانت بالنسبة إلى نور القدم ظلمانية رش عليهم من نور القدم، ومنها أنه لما أخطأ بعض الأرواح ذلك النور وهو أرواح الكفار والمنافقين وقد أصاب أرواح المؤمنين قال :﴿مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ﴾ هذه النعم التي أنعمت بها عليكم من غير استحقاق منكم فإنكم إن شكرتم هذه النعم برؤيتها ورؤية المنعم ﴿وَءَامَنتُمْ﴾ فقد أمنتم بي ونجوتم من عذابي وهو ألم الفراق فإن حقيقة الشكر رؤية المنعم والشكر على وجود المنعم أبلغ من الشكر على وجود النعمي وقال :﴿وَاشْكُرُوا لِي﴾ (البقرة : ١٥٢) أي أشكروا لوجودي ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ في الأزل ﴿شَاكِرًا﴾ لوجوده ومن شكر لوجوده أوجد الخلق بجوده ﴿عَلِيمًا﴾ بمن يشكره وبمن يكفره فأعطى جزاء شكر الشاكرين قبل شكرهم لأن الله شكور وأعطى جزاء كفر الكافرين قبل كفرهم لأن الكافر كفور كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٠٩
﴿لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّواءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ عدم محبته تعالى لشيء كناية عن سخطه والباء متعلقة بالجهر ومن محذوف وقع حالاً من السوء أي لا يحب الجهر من أحد في حق غيره بالسوء كائناً من القول ﴿إِلا مَن ظُلِمَ﴾ أي الأجهر المظلوم فإن المظلوم له أن يجهر برفع صوته بالدعاء على من ظلمه أو يذكر ما فيه من السوء تظلماً منه مثل أن يذكر أنه شرق متاعي أو غصبه مني وقيل : هو أن يبدأ بالشتيمة فيرد على الشاتم يعني لو شتمه أحد ابتداء فله أن يرد على شاتمه أي جاز أن يشتمه بمثله ولا يزيد عليه وقيل : إن رجلاً ضاف قوماً أي أتاهم ضيفاً فلم يطعموه فاشتكاهم فعوتب على الشكاية فنزلت ﴿وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعَا﴾ لكلام المظلوم ﴿عَلِيمًا﴾ بحال الظالم ﴿إِن تُبْدُوا خَيْرًا﴾ أي : خير كان من الأقوال والأفعال ﴿أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سُواءٍ﴾ لكم المؤاخذة عليه وهو المقصود وذكر إبداء الخير وإخفائه تمهيد وتوطئة له ولذلك رتب عليه قوله :﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ فإن إيراده في معرض جواب الشرط يدل على أن العمدة هو العفو مع القدرة أي كان مبالغاً في العفو عن العصاة مع كمال قدرته على المؤاخذة والانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنة الله وهو حث المظلوم على العفو بعد ما رخص له في الانتصار والانتقام حملاً على مكارم الأخلاق.
وعن علي رضي الله عنه لا تتفرد دفع انتقام.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣١٢
صولت انتقام ازمردم
دولت مهتري كند باطل
٣١٢
ازره انتقام يكسو شو
تانماني بمهتري عاطل
واعلم أن الله تعالى لا يحب إظهار الفضائح والقبائح إلا في حق ظالم عظم ضرره وكثر كيده ومكره فعند ذلك يجوز إظهار فضائحه ولهذا قال عليه السلام :"اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس" وورد في الأثر :"ثلاثة ليست لهم الغيبة الإمام الجائر والفاسق المعلن بفسقه والمبتدع الذي يدعو الناس إلى بدعته" ثم إن أكثر السوء قولي فإن اللسان صغير الجرم كبير الجرم وفي الحديث "البلاء موكل بالمنطق".
ـ يحكى ـ أن ابن السكيت جلس مع المتوكل يوماً فجاء المعتز والمؤيد ابنا المتوكل فقال : أيما أحب إليك ابناي أم الحسن والحسين؟ قال : والله إن قنبر خادم علي رضي الله عنه خير منك ومن ابنيك فقال : سلوا لسانه من قفاه ففعلوا فمات ومن العجب أنه أنشد ذلك للمعتز والمؤيد وكان يعلمهما فقال :
يصاب الفتى من عثرة بلسانه
وليس يصاب المرء من عثرة الرجل
فعثرته في القول تذهب رأسه
وعثرته في الرجل تبرا على مهل وفي "المثنوي" :
اين زبان ون سنك وهم آهن وشست
آنه بجهد از زبان ون آتشست
سنك وآهن را مزن برهم كزاف
كه زروى نقل وكه ازروى لاف
زانكه تاريكست وهر سو نبه زار
درميان نبه ون باشد شرار
عالمي را يك سخن ويران كند
روبهان مرده را شيران كند
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣١٢