والإشارة في الآية ﴿لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّواءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ من العوام ولا التحدث مع النفس من الخواص ولا الخطرة التي تخطر بالبال من الأخص ﴿إِلا مَن ظُلِمَ﴾ بمعاصي دواعي البشرية من غير اختيار أو بابتلاء من اضطرار.
وأيضاً لا يحب الجهر بالسوء من القول بإفشاء أسرار الربوبية وأسرار مواهب الألوهية إلا من ظلم بغلبات الأحوال وتعاقب كؤوس عقار الجمال والجلال فاضطر إلى المقال فقال باللسان الباقي لا باللسان الفاني أنا الحق سبحاني ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ في الأزل ﴿سَمِيعَا﴾ لمقالهم قبل إبداء حالهم ﴿عَلِيمًا﴾ بأحوالهم ثم قال :﴿إِن تُبْدُوا خَيْرًا﴾ يعني مما كوشفتم به من ألطاف الحق تنبيهاً للحق وإفادة لهم بالحق ﴿أَوْ تُخْفُوهُ﴾ صيانة لنفوسكم عن آفات الشوائب وأخذاً بخطامها عن المشارب ﴿أَوْ تَعْفُوا عَن سُواءٍ﴾ مما يدعوكم إليه هوى النفس الأمارة بالسوء أو تتركوا إعلان ما جعل الله إظهاره سوء فإن الله كان عفواً فيكون عفواً متخلقاً بأخلاقه متصفاً بصفاته وأيضاً ﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ﴾ في الأزل ﴿عَفُوًّا﴾ عنك بأن لم يجعلك من المخذولين حين صرت عفواً عما سواه وكان هو ﴿قَدِيرًا﴾ على خذلانك حتى يقدر على أن لا يعفو عن مثقال ذرة لكفرانك إن الإنسان لظلوم كفار كذا في "التأويلات النجمية" ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ أي : يؤدي إليه مذهبهم ويقتضيه رأيهم لا أنهم يصرحون بذلك كما ينبىء عنه قوله تعالى :﴿وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ أي بأن يؤمنوا به تعالى ويكفروا بهم لكن لا بأن يصرحوا بالإيمان به تعالى وبالكفر بهم قاطبة بل بطريق الالتزام كما يحكيه قوله تعالى :
٣١٣
﴿وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ أي : نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعضهم كما قالت اليهود : نؤمن بموسى والتوراة وعزير ونكفر بما وراء ذلك وما ذلك إلا كفر بالله تعالى ورسله وتفريق بين الله ورسله في الإيمان لأنه تعالى قد أمرهم بالإيمان بجميع الأنبياء وما من نبي من الأنبياء إلا وقد أخبر قومه بحقية دين نبينا صلى الله عليه وسلّم فمن كفر بواحد منهم كفر بالكل وبالله تعالى أيضاً من حيث لا يحتسب
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣١٢
﴿وَيُرِيدُونَ﴾ بقولهم ذلك ﴿أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَالِكَ سَبِيلا﴾ أي طريقاً وسطاً بين الإيمان والكفر ولا واسطة بينهما قطعاً إذ الحق لا يختلف فإن الإيمان بالله إنما يتم بالإيمان برسله وتصديقهم فيما بلغوا عنه تفصيلاً وإجمالاً فالكافر ببعض كالكافر بالكل في الضلال كما قال :﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلـالُ﴾ (يونس : ٣٢) ﴿أولئك﴾ الموصوفون بالصفات القبيحة ﴿هُمُ الْكَـافِرُونَ﴾ أي الكاملون في الكفر لا عبرة بما يدعونه ويسمونه إيماناً أصلاً ﴿حَقًّا﴾ مصدر مؤكد لمضمون الجملة أي حق ذلك أي كونهم كاملين في الكفر حقاً أو صفة لمصدر الكافرون أي هم الذين كفروا كفراً حقاً أي يقيناً محققاً لا شك فيه ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا﴾ سيذوقونه عند حلوله ويهانون فيه ثم إنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار اتبعه بذكر وعد المؤمنين فقال :﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِه وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ﴾ بأن يؤمنوا ببعضهم ويكفروا بآخرين كما فعله الكفرة وإنما دخل بين على أحد وهو يقتضي متعدداً لعمومه من حيث أنه وقع في سياق النفي فهو بمنزلة ولم يفرقوا بين اثنين أو بين جماعة ﴿أولئك﴾ المنعوتون بالنعوت الجليلة المذكورة ﴿سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ﴾ أي : الله تعالى ﴿أُجُورَهُمْ﴾ الموعودة لهم وسمي الثواب أجراً لأن المستحق كالأجرة وسوف لتأكيد الوعد أي الموعود الذي هو الإيتاء والدلالة على أنه كائن لا محالة وإن تأخر ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا﴾ لما فرط منهم ﴿رَّحِيمًا﴾ مبالغاً في الرحمة عليهم بتضعيف حسناتهم.
والآية الأولى تدل على أن الإيمان لا يحصل بزعم المرء وحسبانه أنه مؤمن وإنما يحصل بحصول شرائطه ونتائجه منه فمن نتائجه ما ذكر في الآية الثانية من عدم التفريق بين الرسل ومن نتائجه القبول من الله والجزاء عليه فمن أخطأه النور عند الرش على الأرواح فقد كفر كفراً حقيقياً ولذلك سماهم الله في الكفر حقاً ومن أصابه النور عند ذلك فقد آمن إيماناً حقيقياً ولذلك لا ينفع الأول توسط الإيمان كما لا يضر الثاني توسط العصيان، قال السعدي قدس سره :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣١٢
قضا كشتى آنجاكه خواهد برد
وكر ناخدا جامه بر تن درد


الصفحة التالية
Icon