﴿وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ﴾ يعني : حلالها وحرامها قليلها وكثيرها وذلك لأن من الدم ما هو حلال والخنزير كله حرام والدم بالنسبة إلى اللحم قليل واللحم بالنسبة إلى الدم كثير ﴿وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ يعني : كل طاعة وعبادة وقراءة ودراسة ورواية تظهرون به لغير الله ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ﴾ يعني الذين يخنقون نفوسهم بالمجاهدات ويقذونها بأنواع الرياضات بنهيها عن المرادات وزجرها عن المخالفات للرياء والسمعة ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ﴾ الذين يردون نفوسهم من أعلى عليين إلى أسفل سافلين بالتناطح من الأقران والمماراة مع الإخوان والتفاخر بالعلم والزهد بين الاخدان وفي قوله ﴿وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ إشارة إلى أنه فيما تحتاجون إليه من القوت الضروري كونوا محترزين من أكيلة السباع وهم الظلمة الذين يتهاوشون في جيفة الدنيا تهاوش الكلاب ويتجاذبونها بمخالب الأطماع الفاسدة إلا ما ذكيتم بكسب حلال ووجه صالح بقدر ضرورة الحال ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ يشير إلى ما ذبح عليه النفس بأنواع الجد والاجتهاد من المطالب الدنيوية والأخروية ﴿وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالازْلاَمِا ذَالِكُمْ فِسْقٌ﴾ يعني : لا تكونوا مترددين متفئلين في طلب المرام مبتغين لحصول المقصود متهاونين في بذل الوجود فإذا انتهيتم عن هذه المناهي وتخلصتم من هذه الدواهي وأخلصتمفي الله بالله وخرجتم من سجن الأنانية وسجين الإنسانية بالجذبات الربانية فقد عادت ليلتكم نهاراً وظلمتكم أنواراً ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من النفس وصفاتها والدنيا وشهواتها ﴿مِن دِينِكُمْ﴾ وتيقنوا أن ما بقي لكم الرجوع إلى ملتهم ولا الصلاة إلى قبلتهم ﴿فَلا تَخْشَوْهُمْ﴾ فإنكم خلصتم من شبكة مكايدهم ونجوتم من عقد مصايدهم ﴿وَاخْشَوْنِى﴾ فإن كيدي متين وصيدي مهين وبطشي شديد وحبسي مديد ﴿الْيَوْمَ﴾ إشارة إلى الأزل ﴿أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ أي : جعلت الكمالية في الدين من الأزل نصيباً لكم من جميع أهل الملل والأديان
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٤٠
﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى﴾ التي أنعمت بها عليكم في الأزل من الكمالية الآن بإظهار دينكم على الأديان كلها في الظاهر وأما في الحقيقة فسيجيء شرحه ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الاسْلَـامَ دِينًا﴾ تستكملون به إلى الأبد بحيث من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وذلك لأن حقيقة الدين هي سلوك سبيل الله بقدم الخروج من الوجود المجازي للوصول إلى الوجود الحقيقي والإنسان مخصوص به من سائر الموجودات ولهذه الأمة اختصاص بالكمالية في السلوك من سائر الأمم فالدين من عهد آدم عليه السلام كان في التكامل بسلوك الأنبياء سبيل الحق إلى عهد النبي عليه الصلاة والسلام فكل نبي سلك في الدين مسلكاً أنزله بقربه من مقامات القرب ولكن ما خرج أحد منهم بالكلية من الوجود المجازي للوصول إلى الوجود الحقيقي بالكمال فقيل للنبي عليه السلام :﴿أولئك الَّذِينَ هَدَى اللَّه فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ (الأنعام : ٩٠) فسلك النبي جميع المسالك التي سكلها الأنبياء بأجمعهم فلم يتحقق له الخروج أيضاً بقدم السلوك من الوجود المجازي بالكلية حتى تداركته
٣٤٤
العناية الأزلية لاختصاصه بالمحبوبية بجذبات الربوبية وأخرجته من الوجود المجازي ليلة أسري بعدما عبر به على الأنبياء كلهم وبلغ في القرب إلى الكمالية في الدنو وهو سر أو أدنى فاستسعد سعادة الوصول إلى الوجود الحقيقي في سر فأوحي إلى عبده ما أوحي وفي الحقيقة قيل له في تلك الحالة ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى﴾ ولكن في حجة الوداع في يوم عرفة عند وقوفه بعرفات أظهر على الأمة عند إظهاره على الأديان كلها وظهور كمالية الدين بنزول الفرائض والأحكام بالتمام فقال :﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الاسْلَـامَ دِينًا﴾ ويدل على هذا التأويل ما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتاً فأحسنها وأجملها وأكملها إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان فيقولون ألا وضعت ههنا لبنة فيتم بناؤها" قال محمد صلى الله تعالى عليه وسلم "فأنا اللبنة" متفق على صحته فصح ما قرر من مقامات الأنبياء وتكامل الدين بهم وكماليته بالنبي عليه السلام وبخروجه من الوجود المجازي بالكلية وأن الأنبياء لم يخرجوا منه بالكلية ويدل على هذا المعنى أيضاً أن الأنبياء كلهم يوم القيامة يقولون : نفسي نفسي لبقية الوجود والنبي عليه السلام "أمتي أمتي" لفناء الوجود فافهم جداً ومن كرامة هذه الأمة اشتراكهم في كمالية الدين مع النبي بمتابعته وقال :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٤٠