قال في "بدائع الصنائع في أحكام الشرائع" إنما وجب غسل جميع البدن بخروج المني ولم يجب بخروج البول والغائط وإنما وجب غسل الأعضاء المخصصة لا غير لوجوه : أحدها أن قضاء الشهوة بإنزال المني استمتاع بنعمة يظهر أثرها في جميع البدن وهي اللذة فأمر بغسل جميع البدن شكراً لهذه النعمة وهذا لا يتقدر في البول والغائط، والثاني : أن الجنابة تأخذ جميع البدن ظاهره وباطنه لأن الوطء الذي هو سببها لا يكون إلا باستعمال جميع ما في البدن من القوة حتى يضعف الإنسان بالإكثار منه ويقوى بالامتناع عنه وإذن أخذت الجنابة جميع البدن الظاهر والباطن بقدر الإمكان ولا كذلك الحدث فإنه لا يأخذ إلا الظاهر من الأطراف لأن سببه يكون بظواهر الأطراف من الأكل والشرب ولا يكون باستعمال جميع البدن فأوجب غسل ظاهر الأطراف لا سائر البدن.
والثالث : أن غسل الكل أو البعض وجب وسيلة إلى الصلاة التي هي خدمة الرب سبحانه والقيام بين يديه وتعظيمه فيجب أن يكون المصلى على أطهر الأحوال وأنظفها ليكون أقرب إلى التعظيم وأكمل في الخدمة وكمال تعظيم النظافة يحصل بغسل جميع البدن وهذا هو العزيمة في الحدث أيضاً إلا أن ذلك مما يكثر وجوده فاكتفى منه بأكثر النظافة وهي تنقية الأطراف التي تنكشف كثيراً ويقع عليها الأبصار أبداً وأقيم ذلك مقام غسل كل البدن دفعاً للحرج وتيسيراً وفضلاً من الله ورحمة ولا حرج في الجنابة لأنها لا تكثر فبقي الأمر فيها على العزيمة انتهى كلام البدائع هذا غسل الحي، وأما غسل الميت فشريعة ماضية لما روي أن آدم عليه السلام لما قبض نزل جبريل بالملائكة وغسلوه وقالوا لأولاده هذه سنة موتاكم وفي الحديث "للمسلم على المسلم ستة حقوق ومن جملتها أن يغسله بعد موته" ثم هو واجب عملاً بكلمة على ولكن إذا قام به البعض سقط عن الباقين لحصول المقصود وأريد بالسنة في حديث آدم الطريقة ولو تعين واحد لغسله لا يحل له أخذ الأجرة عليه وإنما وجب غسل الميت لأنه تنجس بالموت كسائر الحيوانات الدموية إلا أنه يطهر بالغسل كرامة له ولو وجد ميت في الماء فلا بد من غسله لأن الخطاب بالغسل توجه لبني آدم ولم يوجد منهم
٣٥٥
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٥٠
فعل.
وقيل : إن الميت إذا فارقته الروح وارتاح من شدة النزع أنزل فوجب على الأحياء غسله كذا في حل "الرموز وكشف الكنوز" والفرق بين غسل الميت والحي أنه يستحب البداءة بغسل وجه الميت بخلاف الحي فإنه يبدأ بغسل يديه ولا يمضمض ولا يستنشق بخلاف الحي ولا يؤخر غسل رجليه بخلاف الحي إن كان في مستنقع الماء ولا يمسح رأسه في وضوء الغسل بخلاف الحي في رواية كذا في "الأشباه".
والإشارة في الآية ﴿وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا﴾ بالالتفات إلى غيرنا ﴿فَاطَّهَّرُوا﴾ بالنفوس عن المعاصي وبالقلوب عن رؤية الطاعات وبالأسرار عن رؤية الأغيار وبالأرواح عن الاسترواح من غيرنا وبسر السر عن لوث الوجود فلا بد من الطهارة مطلقاً، قال الحافظ :
ون طهارت نبود كعبه وبتخانه يكيست
نبود خير دران خانه كه عصمت نبود
وفي وجوب الغسل إشارة وتنبيه إلى وجوب الغسل الحقيقي لوجود القلب والروح ولتلوثه بحب الدنيا وشهواتها فيجب غسلها بماء التوبة والندامة والإخلاص فهو أوجب الواجبات وآكدها واستقصاء أهل الله في تطهير الباطن أكثر وأشد من استقصائهم في طهارة الظاهر وقد يكون في بعض متصوفة الزمان تشدد في الطهارة فلو اتسخ ثوبه يغسله ولا يبالي بما في باطنه من الغل وسائر الصفات الذميمة، قال السعدي قدس سره :
كراجامه ا كست وسيرت ليد
دردوز خش را نبايد كليد
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٥٠