فلظهور جورهم وعدم اتصافهم بالعدل منعوا عن إطلاق العادل عليهم إذ إطلاقه عليهم حينئذٍ إنما يكون لمجرد المدح لهم والثناء عليهم فيكون كذباً وكفراً فجواز إطلاق العادل على الكافر المنصف وعدم جواز إطلاقه على المسلمين الجائرين ليس بالنظر إلى متانة العدل بل ذاك ليس إلا أن العدل والجور متناقضان فلا يجتمعان.
قال في "زهرة الرياض" : إذا كان يوم القيامة ينصب لواء الصدق لأبي بكر رضي الله عنه وكل صديق يكون تحت لوائه.
ولواء العدل لعمر رضي الله عنه وكل عادل يكون تحت لوائه ولواء السخاوة لعثمان رضي الله عنه وكل شيء يكون تحت لوائه ولواء الشهداء لعلي رضي الله عنه وكل شهيد يكون تحت لوائه وكل فقيه تحت لواء معاذ بن جبل.
وكل زاهد تحت لواء أبي ذر.
وكل فقير تحت لواء أبي الدرداء.
وكل مقرىء تحت لواء أبي بن كعب.
وكل مؤذن تحت لواء بلال.
وكل مقتول ظلماً تحت لواء الحسين بن علي فذلك قوله تعالى :﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسا بِإِمَـامِهِمْ﴾ (الإسراء : ٧١) الآية.
والعدل في الحقيقة هو الوسط المحمود في كل فعل وقول وخلق وهو المأمور به في قوله تعالى :﴿فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ﴾ (هود : ١١٢) ولقد صار من نال إليه كالكبريت الأحمر والمسك الاذفر ومن الله الهداية والتوفيق آمين.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٥٩
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} متعلق بنعمة الله ﴿إِذْ هَمَّ قَوْمٌ﴾ ظرف لنفس النعمة، أي : اذكروا إنعامه عليكم في وقت همهم وقصدهم ﴿أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ﴾ أي : بأن يبطشوا بكم بالقتل والإهلاك يقال بسط إليه يده إذا بطش به وبسط إليه لسانه إذا شتمه ﴿فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ﴾ عطف على هم وهو النعمة التي أريد تذكيرها وذكر الهم إيذان بوقوعها عند مزيد الحاجة إليها والفاء للتعقيب المفيد لتمام النعمة وكمالها أي منع أيديهم أن يمدوا إليكم عقيب همهم بذلك لا أنه كفها عنكم بعدما مدوها إليكم، وفيه من الدلالة على كمال النعمة من حيث أنها لم تكن مشوبة بضرر الخوف والإنزعاج الذي قلما يعرى عنه الكف بعد المد ما لا يخفى مكانه وذلك ما روي أن المشركين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه بعسفان في غزوة ذي أنمار وغزوة ذات الرقاع وهي السابعة من مغازيه عليه السلام قاموا إلى الظهر معاً فلما صلوا ندم المشركون على أن لا كانوا قد أكبوا عليهم فقالوا إن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم يعنون صلاة العصر وهموا أن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها فردهم الله تعالى بكيدهم بأن أنزل صلاة الخوف، وقيل : هو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتى بني قريظة ومعه الشيخان وعلي رضي الله عنهم يستقرضهم لدية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ يحسبهما مشركين فقالوا : نعم يا أبا القاسم اجلس حتى نطعمك ونعطيك ما سألت فأجلسوه في صفة وهموا بقتله وعمد عمرو بن جحاش إلى رحى عظيمة يطرحها عليه فأمسك الله تعالى يده ونزل جبريل فأخبر فخرج النبي عليه السلام، وقيل هو ما روي أنه صلى الله عليه وسلّم نزل منزلاً وتفرق أصحابه في الفضي يستظلون بها فعلق رسول الله صلى الله عليه وسلّم سيفه بشجرة فجاء أعرابي فأخذه وسله فقال : من يمنعك مني فقال عليه السلام :"الله" فأسقطه جبريل عليه السلام من يده فأخذه الرسول عليه السلام فقال :"من يمنعك مني" فقال : لا أحد أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ عطف على اذكروا، أي اتقوه في رعاية
٣٦٠
حقوق نعمته فلا تخلوا بشكرها ﴿وَعَلَى اللَّهِ﴾ أي عليه تعالى خاصة دون غيره استقلالاً واشتراكاً ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ فإنه يكفيهم في إيصال كل خير ودفع كل شر.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٥٩
واعلم أن التوكل عبارة عن الاعتصام بالله تعالى في جميع الأمور ومحله القلب والحركة بالظاهر لا تنافي توكل القلب بعدما تحقق للعبد أن التقدير من قبل الله فإن تعسر شيء فبتقديره.
وأعلى مراتب التوكل أن يكون بين يدي الله تعالى كالميت بين يدي الغاسل تحركه القدرة الأزلية وهو الذي قوي يقينه ألا ترى إلى إبراهيم عليه السلام لما هم نمرود وقومه أن يبسطوا إليه أيديهم فرموه في النار جاءه جبريل وهو في الهواء فقال : ألك حاجة؟ قال : أما إليك فلا وفاه بقوله حسبي الله ونعم الوكيل وانظر إلى حقيقة توكل النبي عليه السلام حيث كف الله عنه وعن أصحابه أيدي المشركين رأساً فلم يقدروا أن يتعرضوا له بل ابتلوا في أغلب الأحوال بما لا يخطر ببالهم من البلايا جزاء لهم على همهم بالسوء، وفي "المثنوي" :
قصه عاد وثمود از بهر يست
تابدانى كه انبيارا ناز كيست


الصفحة التالية
Icon