والإشارة في الآية أن الله تعالى أخذ الميثاق من اليهود والنصارى على التوحيد كما أخذ من هذه الأمة يوم الميثاق ولكنه لما وكل الفريقين إلى أنفسهم نسوا ما ذكروا به فما بقي لهم حظ من ذلك الميثاق بإبطال الاستعداد الفطري لكمال الإنسانية فصاروا كالأنعام بل هم أضل أي بل كالسباع يتحارشون ويتناوشون بالعداوة والبغضاء إلى يوم القيامة فإن أرباب الغفلة لا إلفة بينهم وأن أصحاب الوفاق لا وحشة بينهم وأما هذه الأمة لما أيدت بتأييد الإله إذ كتب في قلوبهم الإيمان بقلب خطاب ألست بربكم يوم الميثاق وأيدهم بروح منه ما نسوا حظاً مما ذكروا به وقيل لنبيهم عليه الصلاة والسلام :﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الذاريات : ٥٥) وقال تعالى خطاباً لهم إذ لم ينسوا حظهم ولم ينقضوا ميثاقهم ﴿فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ﴾ (البقرة : ١٥٢) على أن ذكره إياهم كان قبل وجودهم وذكرهم إياه حين ذكرهم المحبة وقال :﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ (المائدة : ٥٤) كذا في "التأويلات النجمية" يا اأَهْلَ الْكِتَـابِ} يعني : اليهود والنصارى والكتاب جنس شامل للتوراة والإنجيل ﴿قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا﴾ الإضافة للتشريف والإيذان بوجوب اتباعه ﴿يُبَيِّنُ لَكُمْ﴾ حال من رسولنا أي حال كونه مبيناً لكم على التدرج حسبما تقتضيه المصلحة ﴿كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَـابِ﴾
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٦١
أي : كثيراً كائناً من الذي كنتم تخفونه على الاستمرار حال كونه من الكتاب أي التوراة والإنجيل الذي أنتم أهله والمتمسكون به كنعت محمد عليه السلام وآية الرجم في التوراة وبشارة عيسى بأحمد عليهما السلام في الإنجيل.
﴿وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ﴾ مما تخفونه أي لا يظهره ولا يخبره إذا لم يضطر إليه أمر ديني صيانة لكم عن زيادة الافتضاح.
﴿قَدْ جَآءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَـابٌ مُّبِينٌ﴾ المراد بالنور والكتاب هو القرآن لما فيه من كشف ظلمات الشرك والشك وإبانة ما خفي على الناس من الحق أو الإعجاز الواضح والعطف المنبيء عن تغاير الطرفين لتنزيل المغايرة بالعنوان منزلة المغايرة بالذات وقيل : المراد بالأول هو الرسول صلى الله عليه وسلّم وبالثاني القرآن ﴿يَهْدِى بِهِ اللَّهُ﴾ وحد الضمير لأن المراد بهما واحد بالذات أو لأنهما في حكم الواحد فإن المقصود منهما دعوة الخلق إلى الحق أحدهما رسول إلهي والآخر معجزته وبيان ما يدعو إليه من الحق ﴿مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ﴾ أي : رضاه بالإيمان به ﴿سُبُلَ السَّلَـامِ﴾ أي : طرق السلامة من العذاب والنجاة من العقاب على أن يكون السلام بمعنى السلامة كاللذاذ واللذاذة والرضاع والرضاعة أو سبيل الله تعالى وهو شريعته التي شرعها للناس على أن يكون السلام هو الله تعالى وانتصاب سبل بنزع الخافض فإن يهدي إنما يتعدى إلى الثاني بإلى أو باللام كما في قوله تعالى :﴿إِنَّ هَـاذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ﴾ (الإسراء : ٩) ﴿وَيُخْرِجُهُم﴾ الضمير لمن والجمع باعتبار المعنى كما أن الإفراد في اتبع باعتبار اللفظ ﴿مِّنَ الظُّلُمَـاتِ﴾ أي : ظلمات فنون الكفر والضلال ﴿إِلَى النُّورِ﴾ إلى الإيمان وسمي الإيمان نوراً لأن الإنسان إذا آمن أبصر به طريق نجاته فطلبه وطريق هلاكه فحذره ﴿بِإِذْنِهِ﴾
٣٦٩
أي : بتيسيره وإرادته ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي طريق هو أقرب الطرق إلى الله تعالى ومؤدٍ إليه لا محالة وهذه الهداية عين الهداية إلى سبل السلام وإنما عطف عليها تنزيلاً للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي كما في قوله تعالى :﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَه بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَـاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ (هود : ٥٨).
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٦١
واعلم أن الله تعالى بعث النبي صلى الله عليه وسلّم نوراً يبين حقيقة حظ الإنسان من الله تعالى وأنه تعالى سمى نفسه نوراً بقوله تعالى :﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ (النور : ٣٥) لأنهما كانتا مخفيتين في ظلمة العدم فالله تعالى أظهرهما بالإيجاد وسمى الرسول نوراً لأن أول شيء أظهره بالحق بنور قدرته من ظلمة العدم كان نور محمد صلى الله عليه وسلّم كما قال :"أول ما خلق الله نوري" ثم خلق العالم بما فيه من نوره بعضه من بعض فلما ظهرت الموجودات من وجود نوره سماه نوراً وكل ما كان أقرب إلى الاختراع كان أولى باسم النور كما أن عالم الأرواح أقرب إلى الاختراع من عالم الأجسام فلذلك سمي عالم الأنوار والعلويات نورانياً بالنسبة إلى السفليات فأقرب الموجودات إلى الاختراع لما كان نور النبي عليه السلام كان أولى باسم النور ولهذا كان يقول :(أنا من الله والمؤمنون مني) وقال تعالى :﴿قَدْ جَآءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ﴾.