يا قَوْمِ ادْخُلُوا الارْضَ الْمُقَدَّسَةَ} هي أرض بيت المقدس طهرت من الشرك وجعلت قرار الأنبياء ومسكن المؤمنين ﴿الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ أي كتب في اللوح المحفوظ أنها تكون مسكناً لكم إن آمنتم وأطعتم لقوله تعالى
٣٧٥
لهم بعدما عصوا فإنها محرمة عليهم ﴿وَلا تَرْتَدُّوا﴾ لا ترجعوا ﴿عَلَى أَدْبَارِكُمْ﴾ أي : مدبرين خوفاً من الجبابرة فهو حال من فاعل لا ترتدوا ويجوز أن يتعلق بنفس الفعل أي : ولا ترجعوا على أعقابكم بخلاف ما أمر الله ﴿فَتَنقَلِبُوا﴾ فتنصرفوا حال كونكم ﴿خَـاسِرِينَ﴾ أي : مغبونين بفوت ثواب الدارين ﴿قَالُوا﴾ أي : بنوا إسرائيل عند أمر موسى ونهيه غير ممتثلين لذلك يا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} أي متغلبين لا تتأتى مقاومتهم والجبار العالي الذي يجبر الناس ويكرههم كائناً من كان على ما يريده كائناً ما كان فعال من جبره على الأمر أي : أجبره عليه وذلك أن النقباء الإثني عشر الذين خرجوا لتجسس الأخبار وانتهوا إلى مدينة الجبارين لما رجعوا إلى موسى وأخبروه بما عاينوا من قوتهم وشوكتهم وطول قدودهم وعظم أجسامهم وأن الرجل من بني إسرائيل ليدخل تحت قدمهم لعظمه ووسعته قال لهم موسى : اكتموا شأنهم ولا تخبروا به أحداً من أهل المعسكر فيفشلوا فأخبر كل واحد منهم قريبه وابن عمه إلا رجلين وفيا بما قال لهما موسى أحدهما يوشع بن نون بن اقرائيم بن يوسف فتى موسى والآخر كالب بن يوفنا ختن موسى على أخته مريم بنت عمران وكان من سبط يهودا فشاع الخبر بين بني إسرائيل فلذا قالوا أن فيها قوماً جبارين ﴿وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا﴾ من غير صنع من قبلنا فإنه لا طاقة لنا بإخراجهم منها ﴿فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا﴾ بسبب من الأسباب التي لا تعلق لنا بها ﴿فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ حينئذٍ ﴿قَالَ رَجُلانِ﴾ كأنه قيل هل اتفقوا على ذلك أو خالفهم البعض فقيل : قال رجلان وهما كالب ويوشع ﴿مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ﴾ الله تعالى دون العدو ويتقونه في مخالفة أمره ونهيه وهو صفة لرجلان
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٦١
﴿أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا﴾ بالتثبيت والوقوف على شؤونه تعالى والثقة بوعده وهو صفة ثانية لرجلان ﴿ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ﴾ أي باب بلد الجبارين وهو أريحا وتقديم الجار والمجرور عليه للاهتمام به لأن المقصود إنما هو دخول الباب وهم في بلدهم أي باغتوهم وضاغتوهم في المضيق وامنعوهم من البروز إلى الصحراء لئلا يجدوا للحرب مجالاً ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ﴾ أي : باب بلدهم وهم فيه ﴿فَإِنَّكُمْ غَـالِبُونَ﴾ من غير حاجة إلى القتال فإنا قد رأيناهم وشاهدناهم أن قلوبهم ضعيفة وإن كانت أجسادهم عظيمة فلا تخشوهم واهجموا عليهم في المضايق فإنهم لا يقدرون فيها على الكر والفر ﴿وَعَلَى اللَّهِ﴾ خاصة ﴿فَتَوَكَّلُوا﴾ بعد ترتيب الأسباب ولا تعتمدوا عليها فإنها بمعزل من التأثير وإنما التأثير من عناية العزيز القدير ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ به تعالى مصدقين لوعده فإن ذلك مما يوجب التوكل عليه حتما ﴿قَالُوا﴾ غير مبالين بقول ذينك الرجلين مصرين على القول الأول.
يا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَآ} أي : أرض الجبابرة ﴿أَبَدًا﴾ أي دهراً طويلاً ﴿مَّا دَامُوا فِيهَا﴾ أي : في أرضهم وهو بدل من أبداً بدل البعض لأن الأبد يعم الزمن المستقبل كله ودوام الجبارين فيها بعض منه.
﴿فَاذْهَبْ﴾ الفاء فصيحة أي فإذا كان الأمر كذلك فاذهب ﴿أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَـاتِلا﴾ أي فقاتلاهم إنما قالوا ذلك استهانة واستهزاء به تعالى وبرسوله وعدم مبالاة بهما لا أنهم قصدوا ذهابهما حقيقة لأن من هو في صورة الإنسان يستبعد منه أنه يجوز حقيقة الذهاب والمجيىء على الله تعالى إلا أن يكون من المجسمة ﴿إِنَّا هَـاهُنَا﴾
٣٧٦
قاعدون} أراد بذلك عدم التقدم لا عدم التأخر ﴿قَالَ﴾ موسى عليه السلام لما رأى منهم ما رأى من العناد على طريقة البث والحزن والشكوى إلى الله تعالى مع رقة القلب التي بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة ﴿رَبِّ إِنِّى لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِى وَأَخِى﴾
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٦١