﴿قَالَ﴾ الذي تقبل قربانه وما ذنبي ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ﴾ أي : القربان ﴿مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ لا من غيرهم وإنما تقبل قرباني ورد قربانك لما فينا من التقوى وعدمه أي إنما أديت من قبل نفسك لا من قبلي فلم تقتلني والتقوى من صفات القلب لقوله عليه السلام :"التقوى ههنا" وأشار إلى القلب وحقيقة التقوى أن يكون العامل على خوف ووجل من تقصير نفسه فيما أتى به من الطاعات وأن يكون في غاية الاحتراز من أن يأتي بتلك الطاعة لغرض سوى طلب مرضاة الله وأن يكون فيه شركة لغير الله تعالى ﴿لَئِنا بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَآ أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لاقْتُلَكَ﴾ أي : والله لئن مددت إلي يدك وباشرت قتلي حسبما أوعدتني به وتحقق ذلك منك ما أنا بفاعل مثله لك في وقت من الأوقات ثم علل ذلك بقوله :﴿إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَـالَمِينَ﴾ قيل كان هابيل أقوى ولكن تحرّج عن قتله واستسلم له خوفاً من الله تعالى لأن القتل للدفع لم يكن مباحاً في ذلك الوقت، قال البغوي : وفي الشرع جائز لمن أريد قتله أن ينقاد ويستسلم طلباً للأجر كما فعل عثمان رضي الله عنه ﴿إِنِّى أُرِيدُ أَن تَبُواأَ بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ﴾ تعليل آخر لامتناعه عن المعارضة على أنه غرض متأخر عنه كما أن الأول باعث متقدم عليه وإنما لم يعطف تنبيهاً على كفاية كل منهما في العلية والمعنى إني أريد باستسلامي لك وامتناعي عن التعرض لك أن ترجع باثمي أي بمثل إثمي لو بسطت يدك إليك وبإثمك ببسط يدك إليّ كما في قوله صلى الله عليه وسلّم "المستبان ما قالا فعلى البادىء ما لم يعتد المظلوم" أي : على البادىء عين إثم سبه ومثل سبه صاحبه بحكم كونه سبباً له وكلاهما نصب على الحالية أي ترجع ملتبساً بالإثمين حاملاً لهما ولعل مراده بالذات إنما هو عدم ملابسته للإثم لا ملابسة أخيه له.
﴿فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَـابِ النَّارِ﴾ في الآخرة ﴿وَذَالِكَ﴾ إشارة إلى كونه من أصحاب النار ﴿إِنِّى أُرِيدُ﴾ أي : عقوبة من لم يرض بحكم الله تعالى ﴿فَطَوَّعَتْ لَه نَفْسُه قَتْلَ أَخِيهِ﴾ من طاع له المرتع إذا اتسع أي : وسعته وسهلته أي جعلته سهلاً وهوّنته وتقدير الكلام فصورت له نفسه أن قتل أخيه طوع له سهل عليه ومتسع له لا ضيق فيه ولا حرج فإن قتل النفس بغير حق لا سيما قتل الأخ إذا تصوره الإنسان يجده شيئاً عاصياً نافراً كل النفرة عن دائرة الشرع والعقل بعيداً عن الإطاعة والانقياد ألبتة ثم إن النفس الأمارة إذا استعملت القوة السبعية الغضبية صار لها الفعل أسهل عليها فكأن النفس صيرته كالمطيع لها بعد أن كان كالعاصي المتمرد عليها ويتم الكلام بدون اللام بأن يقال فطوعته نفسه قتل أخيه إلا أنه جيىء باللام لزيادة الربط كما في قولك حفظت لزيد ماله مع تمام الكلام بأن يقال حفظت مال زيد.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٦١
﴿فَقَتَلَهُ﴾ قيل لم يدر قابيل كيف يقتل هابيل فتمثل إبليس وأخذ طائراً أو حية وضع رأسه على الحجر ثم شدخها بحجر آخر وقابيل ينظر فتعلم منه فوضع رأس هابيل بين حجرين وهو مستسلم لا يستعصي عليه أو اغتاله وهو نائم وغنمه ترعى وذلك عند جبل ثور أو عقبة حراء أو بالبصرة في موضع المسجد الأعظم وكان لهابيل يوم قتله عشرون سنة وعن بعض الكبار أن آدم لما هبط إلى الأرض تفكر فيما أكل فاستقاء فنبتت شجرة السم من قيئه فأكلت الحية ذلك السم ولذا صارت مؤذية مهلكة وكان قد بقي شيء مما أكل فلما غشي حواء حصل قابيل ولذا كان قاتلاً باعثاً للفساد في وجه الأرض
٣٨٠
﴿فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَـاسِرِينَ﴾ خسر دينه ودنياه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : خسر دنياه وآخرته أما الدنيا فإنه أسخط لوالديه وبقي مذموماً إلى يوم القيامة وأما الآخرة فهو العقاب العظيم ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا﴾ أرسله ﴿يَبْحَثُ فِى الأرْضِ﴾ البحث بالفارسية "بكندن" ﴿لِيُرِيَهُ﴾ المستكن إلى الله تعالى أو للغراب واللام على الأول متعلقة ببعث حتماً وعلى الثاني بيبحث ويجوز تعلقها ببعث أيضاً ﴿كَيْفَ يُوَارِى﴾ يستر ﴿سَوْءَةَ أَخِيهِ﴾ أي جسده الميت فإنه مما يستقبح أنه يرى وقيل عورته لأنه كان قد سلب ثيابه.
وكيف حال من ضمير يواري والجملة ثاني مفعولي يرى.


الصفحة التالية
Icon