وفي الحديث يؤتى بأنعم أهل الدنيا الباء فيه للتعدية وأنعم أفعل تفضيل من النعمة أي بأكثرهم نعمة "من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة" يعني يغمس فيها مرة أراد من الصبغ الغمس إطلاقاً للملزوم على اللازم لأن الصبغ إنما يكون بالغمس غالباً ثم أراد من غمسه فيها إصابة نفخة من النار به "ثم يقال يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول : لا والله يا رب" شدة العذاب أنسته ما مضى عليه من نعم الدنيا "ويؤتى بأشد الناس بؤساً" أي شدة وبلاء في الدنيا "من أهل الجنة فيصبغ صبغة من الجنة فيقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط هل مر بك شدة قط؟ فيقول لا والله ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط" كذا في "شرح المشارق" لابن ملك :
هر ند غرق بحر كناهم زصد جهت
كر آشناي عشق شوم زاهل رحمتم
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٦١
﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ﴾ وهو مبتدأ محذوف الخبر أي حكم السارق والسارقة ثابت فيما يتلى عليكم فقوله تعالى :﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ بيان لذلك الحكم المقدر فما بعد الفاء مرتبط بما قبلها ولذلك أتى بها فيه لأنه هو المقصود مما قبلها ولو لم يأت بالفاء لتوهم أنه أجنبي وإنما قدر الخبر لأن الأمر إنشاء لا يقع خبراً إلا بإضمار وتأويل والمراد بأيديهما إيمانهما ولذلك ساغ وضع الجمع موضع المثنى كما في قوله تعالى :﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ (التحريم : ٤) اكتفاء بتثنية المضاف إليه وتفصيل ما يتعلق بالسرقة سيجيء في آخر المجلس ﴿جَزَآءَا بِمَا كَسَبَا نَكَـالا مِّنَ اللَّهِ﴾ منصوبان على المفعول له والمعنى فاقطعوهما مكافأة لهما على ما فعلا من فعل السرقة وعقوبة رادعة لهما من العود ولغيرهما من الاقتداء بهما وبما متعلق بجزاء ومن الله صفة نكالاً أي نكالاً كائناً منه تعالى، والنكال اسم بمعنى التنكيل مأخوذ من النكول وهو الامتناع ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ﴾ غالب على أمره يمضيه كيف يشاء من غير ند ينازعه ولا ضد يمانعه ﴿حَكِيمٌ﴾ في شرائعه لا يحكم إلا بما تقتضيه الحكمة والمصلحة ولذلك شرع هذه الشرائع المنطوية على فنون الحكم والمصالح ﴿فَمَن تَابَ﴾ من السراق إلى الله تعالى ﴿مِنا بَعْدِ ظُلْمِهِ﴾ أي : من بعد أن ظلم غيره بأخذ ماله والتصريح به مع أن التوبة لا تتصور قبله لبيان عظم نعمته تعالى بتذكير عظم جنايته ﴿وَأَصْلَحَ﴾ أي : أمره بالتفصي عن تبعات ما باشره والعزم على أن لا يعود إلى السرقة ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ﴾ أي : يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة وأما القطع فلا تسقطه التوبة عندنا لأن فيه حق المسروق منه.
قال الحدادي لا تقطع يده إذا رد المال قبل المرافعة إلى الحاكم وأما إذا رفع إلى الحاكم ثم تاب فالقطع واجب فإن كانت توبته حقيقة كان ذلك زيادة درجات له كما أن الله تعالى ابتلى الصالحين والأنبياء بالبلايا
٣٩٠
والمحن والأمراض زيادة لهم في درجاتهم وإن لم تكن توبته حقيقة كان الحد عقوبة له على ذنبه وهو مؤاخذ في الآخرة إن لم يتب ﴿أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ مبالغ في المغفرة والرحمة ولذلك يقبل التوبة ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم والمراد به الجميع والاستفهام الإنكاري لتقرير العلم والمراد بذلك الاستشهاد على قدرته تعالى على ما سيأتي من التعذيب والمغفرة على أبلغ وجه وأتمه أي ألم تعلم أن الله له السلطان القادر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهما وفيما فيهما إيجاداً وإعداماً وإحياء وإماتة إلى غير ذلك حسبما تقتضيه مشيئته.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٦١
﴿يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ﴾ أن يعذبه ولو على الذنب الصغير وهو عدل منه.
﴿وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ﴾ أن يغفر له ولو كان الذنب عظيماً وهو الفضل منه أي يعذب لمن توجب الحكمة تعذيبه ويغفر لمن توجب الحكمة مغفرته ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ فيقدر على ما ذكر من التعذيب والمغفرة، قال ابن الشيخ : إنه تعالى لما أوجب قطع يد السارق وعقاب الآخرة لمن مات قبل التوبة ثم ذكر أنه يقبل توبته إن تاب أردفه ببيان أنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فيعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء يحسن منه التعذيب تارة والمغفرة أخرى لأنه مالك جميع المحدثات وربهم وإلههم والمالك له أن يتصرف في ملكه كيف شاء وأراد لا كما زعمت المعتزلة من أن حسن أفعاله تعالى ليس لأجل كونه إلهاً للخلق ومالكاً بل لأجل كونها على وفق مصالح الخلق ومتضمنة لرعاية ما هو الأصلح لهم انتهى.