الرشوة ليدفع الخوف عن نفسه أو يرشوه ليسوي أمره بينه وبين السلطان أو يرشوه ليتقلد القضاء من السلطان أو يرشو القاضي ليقضي له.
ففي الوجه الأول لا يحل الأخذ لأن الكف عن التخويف كف عن الظلم وأنه واجب حقاً للشرع فلا يحل أخذه لذلك ويحل للمعطي الإعطاء لأنه جعل المال وقاية للنفس وهذا جائز موافق للشرع.
وفي الوجه الثاني أيضاً لا يحل الأخذ لأن القيام بأمور المسلمين واجب بدون المال فلا يحل له الأخذ.
وفي الوجه الثالث : لا يحل له الأخذ والإعطاء وأما الرابع : فحرام الأخذ سواء كان القضاء بحق أو ظلم.
أما الظلم فلوجهين : أحدهما أنه رشوة، والثاني : أنه سبب للقضاء بالجور.
وأما الحق فلوجه واحد وهو أنه أخذ المال لإقامة الواجب.
وأما العطاء فإن كان بجور لا يجوز وإن كان بحق جاز، قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : من شفع شفاعة يرد بها حقاً أو يدفع بها ظلماً فأهدي له فقبل فهو سحت، وفي "نصاب الاحتساب" أن المحتسب أو القاضي إذا أهدي إليه ممن يعلم أنه يهدي لاحتياجه إلى القضاء والحسبة لا يقبل ولو قبل كان رشوة وأما ممن يعرف أنه يهدي للتودد والتحبب لا للقضاء والحسبة فلا بأس به وكان الصحابة رضي الله عنهم يتوسعون في قبول الهداية بينهم وهذا لأن الهدية كانت عادتهم وكانوا لا يلتمسون منهم شيئاً وإنما كانوا يهدون لأجل التودد والتحبب وكانوا يستوحشون برد هداياهم فلا يكون فيه معنى الرشوة فلهذا كانوا يقبلونها، قال قوم : إن صلات السلاطين تحل للغني والفقير إذا لم يتحقق أنها حرام وأما التبعة على المعطي قالوا لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قبل هدية المقوقس ملك الاسكندرية واستقرض من اليهود مع قول الله تعالى :﴿أَكَّـالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ (المائدة : ٥) وأما حال السوق فمتى علمت أن الحرام هو الأكثر فلا تشتر إلا بعد التفتيش وإن كان كثيراً وليس بالأكثر فلك السؤال ولقد كان النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه يشترون من الأسواق مع علمهم بأن فيهم أهل الربا والغصب والغلول.
قال الحدادي ومن السحت ثمن الخمر والخنزير والميتة وعسب الفحل وأجرة النائحة والمغنية والساحر وهدية الشفاعة ومهر البغي وحلوان الكاهن هكذا قال عمر وعلي وابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ قالوا : والمال الذي يأخذه المغنى والقوال ونحوهما حكم ذلك أخف من الرشوة فإن صاحب المال أعطاه عن غير اختيار بغير عقد، قال ابن كيسان : سمعت الحسن يقول : إذا كان لك على رجل دين فأكلت في بيته فهو سحت.
فعليك أيها المؤمن المتقي بالاحتياط في أمورك حتى لا تقع في الشبهات بل في الحرام وإنما تحصل التصفية للقلب بأكل الغذاء الحلال.
قال الحافظ :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٦١
صوفي شهر بين كه ون لقمه شبهه ميخورد
اردمش در ازباد اين حيوان خوش علف
والمقصود من البيت تشبيه الذي لا يحترز عن الشبهات بالحيوان في الأكل من كل ما يجده من غير تفرقة ولأن تناول الشبهات من كمال الحرص لأنه لو لم يكن له حرص لكان له قناعة بالحلال ولو قليلاً والحيوان يعظم من كثرة الأكل والشرب والنوم وهي حكم الطبيعة.
﴿إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاـاةَ﴾ حال كونها ﴿فِيهَا هُدًى﴾ تهدي شرائعها وأحكامها إلى الحق وترشد الناس إليه ﴿وَنُورٌ﴾ تكشف ما انبهم من الأحكام وما يتعلق بها من المستورة بظلمات الجهل.
﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ﴾ أي : أنبياء بني إسرائيل أي يحكمون بأحكامها ويحملون الناس عليها.
﴿الَّذِينَ أَسْلَمُوا﴾، إن قلت :
٣٩٦
النبيون أعظم من الإسلام فكيف يمدح نبي بأنه رجل مسلم وما الوصف به بعد الوصف بالنبوة إلا تنزل من الأعلى إلى الأدنى، قلت : قد يذكر الوصف مدحاً للوصف ففائدة التوصيف تنويه شأن الصفة والتنبيه على عظم قدرها حيث وصف بها عظيم كما وصف الأنبياء بالصلاح والملائكة بالإيمان وقد قيل أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف، قال :
ما إن مدحت محمداً بمقالتي
لكن مدحت مقالتي بمحمد
﴿لِلَّذِينَ هَادُوا﴾ متعلق بيحكم أي يحكمون فيما بينهم واللام لبيان اختصاص الحكم بهم أعم من أن يكون لهم أو عليهم كأنه قيل لأجل الذين هادوا ﴿وَالرَّبَّـانِيُّونَ وَالاحْبَارُ﴾ عطف على النبيون أي هم أيضاً يحكمون بأحكامها وهم الزهاد والعلماء من ولد هارون الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا دين اليهود ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَـابِ اللَّهِ﴾ أي : بالذي استحفظوه من جهة النبيين وهو التوراة حيث سألوهم أن يحفظوها من التضييع والتحريف على الإطلاق ولا ريب في أن ذلك منهم عليهم السلام استخلاف لهم في إجراء أحكامها من غير إخلال بشيء منها والباء سببية متعلقة بيحكم أي ويحكم الربانيون والأحبار أيضاً بسبب ما حفظوه من كتاب الله حسبما وصاهم به أنبياؤهم وسألوهم أن يحفظوه ﴿وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَآءَ﴾ أي : رقباء لا يتركونهم أن يغيروا فهو من الشهود بمعنى الحضور.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٦١


الصفحة التالية
Icon