يا أبا القاسم قد عرفت أنا أحبار اليهود وأنا إن اتبعناك اتبعك اليهود كلهم وأن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فاقض لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك فأبى ذلك رسول الله فنزلت، واستدل العلماء بهذه الآية على أن الخطأ والنسيان جائز على الرسل لأنه تعالى قال :﴿وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنا بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ والتعمد في مثل هذا غير جائز على الرسل فلم يبق إلا الخطأ والنسيان ﴿فَإِن تَوَلَّوْا﴾ أي أعرضوا عن الحكم بما أنزل الله وأرادوا غيره ﴿فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ﴾ أي : فاعلم أن إعراضهم من أجل أن الله يريد ﴿أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾ أي : يعجل لهم العقوبة في الدنيا بأن يسلطك عليهم ويعذبهم في الدنيا بالقتل والجلاء والجزية ويجازيهم بالباقي في الآخرة فالمراد ببعض ذنوبهم ذنب توليهم عن حكم الله تعالى وإنما عبر عنه بذلك تنبيهاً على أن لهم ذنوباً كثيرة هذا مع عظمه واحد من جملتها ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَـاسِقُونَ﴾ أي : متمردون في الكفر مصرون عليه خارجون عن الحدود المعهودة فلذا يتولون عن حكم الله.
﴿أَفَحُكْمَ الْجَـاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾ إنكار وتعجب من حالهم وتوبيخ لهم والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أيتولون عن حكمك فيبغون حكم الجاهلية وهي الملة الجاهلية التي هي هوى وجهل لا يصدر عن كتاب ولا يرجع إلى وحي ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا﴾ إنكار لأن يكون أحد حكمه أحسن من حكمه تعالى أو مساوله وإن كان ظاهر السبك غير متعرض لنفي المساواة وإنكارها يرشدك إليه العرف المطرد والاستعمال الناشيء فإنه إذا قيل : من أكرم من فلان أو الأفضل من فلان فالمراد به حتماً إنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل وحكماً نصب على التمييز من أحسن منقول من المبتدأ والتقدير ومن حكمه أحسن من حكم الله.
﴿لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ أي : عندهم واللام للبيان فيتعلق بمحذوف كما في سقيا لك فإن سقيا دعاء للمخاطب بأن يسقيه الله فيكون لك بياناً له أي هذا الاستفهام لقوم يوقنون فإنهم الذين يتدبرون الأمور بأنظارهم فيعلمون يقيناً أن حكم الله عز وجل أحسن الأحكام وأعدلها وليست اللام متعلقة بقوله :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٦١
﴿حُكْمًا﴾ لأن حكم الله لا يخص قوماً دون قوم، فقد دلت الآيات على أن الدين واحد من حيث الأصول مختلف من جهة الفروع ولله أن يحكم في كل عصر وزمان بما أراد ففيه حكم ومصالح فعلينا بالتسيلم والانقياد وترك الاعتراض والمسارعة إلى الخيرات قبل الموت والفوت وفي الحديث "اغتنم خمساً قبل خمس شبابك قبل هرمك" لأن الرجل يقدر على الأعمال في حال شبابه ما لا يقدر عليه في حال هرمه ولأن الشاب إذا تعود في المعصية لا يقدر على الامتناع منها في هرمه "وصحتك قبل سقمك" لأن الصحيح نافذ الأمر في ماله ونفسه لأنه إذا مرض ضعف بدنه عن الطاعة وقصرت يده عن ماله إلا في مقدار ثلثه "وفراغك قبل شغلك" يعني في الليل تكون فارغاً وبالنهار تكون مشغولاً فينبغي أن تصلي بالليل في حال فراغك وتصوم بالنهار في وقت شغلك خصوصاً في أيام الشتاء لأن الصوم في الشتاء غنيمة المؤمن كما قال عليه السلام :"الشتاء غنيمة المؤمن طال ليله فقامه وقصر نهاره فصامه" وفي رواية أخرى "الليل طويل فلا تقصره بمنامك والنهار مضيىء
٤٠١
فلا تكدره بآثامك" "وغناك قبل فقرك" يعني : إذا كنت راضياً بما أعطاك الله من القوت فاغتنم ذلك ولا تطمع فيما في أيدي الناس "وحياتك قبل مماتك" لأن الرجل ما دام حياً يقدر على العمل فإذا مات انقطع عمله ولهذا تتمنى الموتى أن يعودوا إلى الدنيا فيتهللوا مرة أو يصلوا ركعة فالفرصة غنيمة والعمر قليل، قال الحافظ :
بكذشتن فرصت أي برادر
دركرم روى وميغ باشد
درياب كه عمر بس عزيز ست
كر فوت شود دريغ باشد
وقال السيد الشريف لابنه :
نصيحت همينست جان در
كه عمرت عزيز ست ضايع مكن
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٦١