وثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت أي أن بياننا الآيات أمر بديع في بابه وإعراضهم عنها مع تعاضد ما يوجب قبولها أبدع ﴿قُلْ﴾ يا محمد الزاماً لهؤلاء النصارى ومن سلك طريقتهم من اتخاذ غير الله إلهاً ﴿أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ أي متجاوزين إياه ﴿مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا﴾ يعني عيسى وهو وإن ملك ذلك بتمليك الله إياه لكنه لا يملكه من ذاته ولا يملك مثل ما يضر الله به من البلايا والمصائب وما ينفع به من الصحة والسعة وإنما قال : ما مع أن أصله أن يطلق على غير العاقل نظراً إلى ما هو عليه في ذاته فإنه عليه الصلاة والسلام في أول أحواله لا يوصف بعقل ولا بشيء من الفضائل فكيف يكون إلهاً ﴿وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ بالأقوال والعقائد فيجازي عليها إن خيراً فخير وإن شراً فشر وهو حال من فاعل تعبدون ﴿قُلْ يا اأَهْلَ الْكِتَـابِ لا تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ﴾ أي : غلواً باطلاً فترفعوا عيسى إلى أن تدعوا له الألوهية كما ادعته النصارى أو تضعوه فتزعموا أنه لغير رشدة كما زعمته اليهود ﴿وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ﴾ يعني : أسلافهم وأئمتهم الذين قد ضلوا قبل مبعث محمد عليه السلام في شريعته ﴿وَأَضَلُّوا كَثِيرًا﴾ أي من تابعهم على يديهم وضلالهم.
﴿وَضَلُّوا عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ﴾ عن قصد السبيل الذي
٤٢٣
هو الإسلام بعد مبعثه لما كذبوه وبغوا عليه وحسدوه.
قال الشيخ نجم الدين في "تأويلاته" : إن النصارى لما أرادوا أن يسلكوا طريق الحق بقدم الفعل وينظروا إلى أحوال الأنبياء بنظر العقل تاهوا في أودية الشبهات وانقطعوا في بوادي الهلكات جل جناب القدس عن إدراك عقول الإنس هيهات هيهات وهذا حال من يحذو حذوهم ويقفوا أثرهم فأطرت النصارى عيسى عليه السلام إذ نظروا بالعقل في أمره فوجدوه مولوداً من أم بلا أب فحكم عقلهم أن لا يكون مولود بلا أب فينبغي أن يكون هو ابن الله واستدلوا على ذلك بأنه يخلق من الطين كهيئة الطير ويبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى ويخبر عما يأكلون في بيوتهم وما يدخرون وهذا من صفات الله تعالى ولو لم يكن المسيح ابن الله لما أمكنه هذا وإنما أمكنه لأن الولد سر أبيه وقال بعضهم : إن المسيح لما استكمل تزكية النفس عن صفات الناسوتية حل لاهوتية الحق في مكان ناسوتيته فصار هو الله تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٢١
ثم اعلم أن أمة محمد لما سلكوا طريق الحق بإقدام جذبات الألوهية على وفق المتابعة الحبيبية أسقط عنهم كلفة الاستدلال ببراهين الوصول والوصال كما كان حال الشبلي حين غسل كتبه بالماء وكان يقول : نعم الدليل أنتم ولكن اشتغالي بالدليل بعد الوصول إلى المدلول محال، وفي "المثنوي" :
ون شدي بر بامهاي آسمان
سرد باشد جست وجوى نردبان
آينه روشن كه شد صاف وجلي
جهل باشد بر نهادن صيقلي
يش سلطان خوش نشسته درقبول
جهل باشد جستن نامه ورسول
فهؤلاء القوم بعدما وصلوا إلى سرادقات حضرة الجلال شاهدوا بأنوار صفات الجمال أن الإنسان هو الذي حمل أمانة الحق من بين سائر المخلوقات وهي نور فيض الألوهية بواسطة الأنبياء فهم مخصوصون بأحسن التقويم في قبول هذا الكمال فتحقق لهم أن عيسى عليه السلام صار قابلاً بعد التزكية للتخلية بفيض الخالقية والمحبية كان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله ويبرى الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله لا بإذنه أعني كان صورة الفعل منه ومنشأ صفة الخالقية حضرة الألوهية وهذا كما أن الكرة البلور المخروط استعداداً في قبول فيض الشمس إذا كانت في محاذاتها فتقبل الفيض وتحرق المحلوج المحاذي لها بذلك الفيض فمصدر الفعل المحرق من الكرة ظاهراً ومنشأ الصفة المحرقية حضرة الشمس حقيقة فصار للكرة بحسن الاستعداد قابلية لفيض الشمس وظهر منها صفات الشمس وما حلت الشمس في كرة البلور تفهم إن شاء الله وتغتنم فكذلك حال الأنبياء في المعجزات وكبار الأولياء في الكرامات والفرق أن الأنبياء مستقلون بهذا المقام والأولياء متبعوه.
قال الإمام الغزالي في قول أبي يزيد انسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها فنظرت فإذا أنا هو إذ من انسلخ من شهوات نفسه وهواها وهمها لا يبقى فيه متسع لغير الله ولا يكون له هم سوى الله وإذا لم يحل في القلب إلا جلال الله وجماله صار مستغرقاً كأنه هولا أنه هو تحقيقاً.
وقوله أيضاً سبحاني ما أعظم شأني يحمل على أنه قد شاهد كمال حظه من صفة القدس فقال سبحاني ورأى عظيم شأنه بالإضافة إلى شأن عموم الخلق فقال : ما أعظم شأني وهو مع ذلك يعلم قدسه وعظم شأنه بالإضافة
٤٢٤
إلى الخلق ولا نسبة له إلى قدس الرب وعظم شأنه وقول من قال من الصوفية : أنا الحق فوارد على سبيل التجوز أيضاً كما قال الشاعر :


الصفحة التالية
Icon