واعلم أنه في العالم العلمي وفق من وفق فجرى على ذلك التوفيق في هذا العالم العيني الشهادي ثم لا يزال على ذلك في جانب الأبد حتى يدخل الجنة الصورية الحسية مع أذواق الروحانية المعنوية خالداً فيها فهذا هو ثمرة ذلك البذر ومحصول ذلك الزرع والحرث كما قال الله تعالى :﴿فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا﴾ الخ فعلى المؤمن أن يجتهد في تحصيل اليقين ويدخل الجنة العاجلة التي هي المعرفة الإلهية كما قال مما عرفوا من الحق ويتخلص من نار البعد والفراق كما قال :﴿أولئك أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} أي لا تمنعوا ما طاب ولذ منه أنفسكم كمنع التحريم ﴿وَلا تَعْتَدُوا﴾ أي لا تتجاوزوا حدود ما أحل لكم
٤٣٠
إلى ما حرم عليكم فإن محرم ما أحل الله يحل ما حرم الله أو ولا تسرفوا في تناول الطيبات فإن الإسراف تجاوز إلى الحرام كتناول المحرمات ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ أي لا يرضى عمل المعتدين على أنفسهم المتجاوزين حدود الله ﴿وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالا طَيِّبًا﴾ أي ما أحل لكم وطاب مما رزقكم الله فحلالاً مفعول كلوا ومما رزقكم الله حال منه تقدمت عليه لكونه نكرة، قال عبد الله بن المبارك الحلال ما أخذته من وجهه والطيب ما غذي ونمى فأما الجوامد كالطين والتراب وما لا يغذي فمكروه إلا على وجه التداوي ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى أَنتُم بِه مُؤْمِنُونَ﴾ تأكيد للوصية بما أمر به فإن قوله :﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالا﴾ وإن كان المراد به ههنا الإباحة والتحليل إلا أنه إنما أباح أكل الحلال فيفيد تحريم ضده فأكد التحريم المستفاد منه بقوله :﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ وزاده تأكيداً بقوله :﴿الَّذِى أَنتُم بِه مُؤْمِنُونَ﴾ فإن الإيمان يوجب التقوى بالانتهاء عما نهى عنه وعدم التجاوز عما حد له.
قال الإمام قوله تعالى :﴿كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ يدل عى أنه تعالى قد تكفل برزق كل أحد فإنه لو لم يتكفل برزقه لما قال :﴿كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ وإذا تكفل برزقه وجب أن لا يبالغ في الطلب وأن يعول على وعده وإحسانه فإنه أكرم من أن يخلف الوعد ولذلك قال عليه السلام :"فاتقوا اللهوأجملوا في الطلب"، قال الحافظ :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٢١
ما ابروي فقر وقناعت نمي بريم
با دشه بكوى كه روزي مقدرست
وقال الصائب :
رزق اكر بر آدمي عاشق نمي باشد را
از زمين كندم كريبان اك مي آيدرا
قال أهل التفسير : ذكر النبي عليه السلام يوماً النار ووصف القيامة وبالغ في الإنذار فرق له الناس وبكوا فاجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي وتشاوروا واتفقوا على أن يترهبوا ويلبسوا المسوح ويجبوا مذاكيرهم ويصوموا الدهر ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم والودك ولا يقربوا النساء والطيب ويسيحوا في الأرض فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأتى دار عثمان بن مظعون فلم يصادفه فقال لامرأته أم حكيم بنت أمية واسمها خولة وكانت عطارة "أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه فكرهت أن تكذب على رسول الله وكرهت أن تبدي خبر زوجها" فقالت : يا رسول الله إن كان قد أخبرك عثمان فقد صدق فرجع رسول الله فلما جاء عثمان أخبرته زوجته بذلك فمضى إلى رسول الله فسأله النبي عليه السلام عن ذلك فقال : نعم فقال عليه السلام :"أما إني لم آمر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقاً فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم أنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" ثم جمع الناس وخطبهم وقال :"ما بال قوم حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا أما أني لا آمركم أن تكونوا قسيسين ولا رهباناً فإنه ليس من ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الاجتهاد فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم فإنما هلك من هلك قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع" فأنزل
٤٣١
الله هذه الآية.
ـ وروي ـ أن عثمان بن مظعون جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : يا رسول الله إن نفسي تحدثني بأن أختصي فائذن لي في الاختصاء قال :"مهلاً يا عثمان فإن اختصاء أمتي الصيام"، وفي "المثنوي" :
هين مكن خودرا خصي رهبان مشو
زانكه عفت هست شهوت را كرو
بي هوا نهى از هوا ممكن نبود
غازي بر مردكان نتوان نمود
س كلو از بهر دام شهوتست
بعد ازان لا تسرفوا آن عفتست
ونكه رنج صبر نبود مرترا
شرط نبود س فرو نايد را
حبذا آن شرط وشادا آن جزا
آن جزاي دلنواز جان فزا
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٢١