والإشارة في الآية أن الله تعالى جعل البلاء للولاء كاللهب للذهب فقال : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} إيمان المحبين الذين تجردوا عن ملاذ الدنيا وشهواتها من الحلال وأحرموا بحج الوصول وعمرة الوصال ﴿لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ﴾ في أثناء السلوك ﴿بِشَىْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ﴾ وهو ما سنح من المطالب النفسانية الحيوانية والمقاصد الشهوانية الدنيوية ﴿تَنَالُه أَيْدِيكُمْ﴾ أي : ما يتعلق بشهوات نفوسكم ولذات أيدانكم ﴿وَرِمَاحُكُمْ﴾ أي : ما يتعلق بالمال والجاه ﴿لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُه بِالْغَيْبِ﴾ وهو يعلم ويرى أي ليظهر الله ويميز بترك المطالب والمقاصد في طلب الحق من يخافه بالغيبة والانقطاع عنه ويحترز عن الالتفات لغيره ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذالِكَ﴾ أي : تعلق بالمطالب بعد الطلب ﴿فَلَه عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ من الرد والصد والانقطاع عن الله كذا في "التأويلات النجمية".
قال أوحد المشايخ في وقته أبو عبد الله الشيرازي قدس سره رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المنام وهو يقول من عرف طريقاً إلى الله فسلكه ثم رجع عنه عذبه الله بعذاب لم يعذب به أحداً من العالمين، يقول الفقير سمي الذبيح الحقي غفر الله ذنوبه إنما كان عذابه أشد لأنه رجع عن طريقه بعد معرفته أنه الحق الموصل إلى الله تعالى وليس من يعلم كمن لا يعلم وسبب الرجوع الامتحانات في الطريق، قال في "المثنوي" :
قلب ون آمد سيه شد در زمان
زر در آمد شد زرىء اوعيان
دست وا انداخت زر دروته خش
در رخ آتش همي خندد رخش
قال الحافظ :
٤٣٩
ترسم كزين من نبري آستين كل
كز كلشنش تحمل خاري نميكني
فينبغي للطالب الصادق أن يتحمل مشاق الرياضات ويزكي نفسه عن الشهوات ويحترز عن أكل ما يجده من الحلال فضلاً عما حرم الله الملك المتعال فإن إصلاح الطبيعة والنفس وإن كان بفضل الله وعنايته لكن الصوم وتقليل الطعام من الأسباب القوية في هذا الباب.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٢١
ـ يحكى ـ أن سالكاً خاطب نفسه بعد رياضات شديدة فقال : من أنت ومن أنا؟ فقالت له نفسه : أنت أنت وأنا أنا فاشتغل بالتزكية ثانياً حتى حج ماشياً مرات فسأل أيضاً فأجابت بما أجابت به أولاً، فاشتغل أشد من الأول وعالج بتقليل الطعام حتى أمات نفسه فسأل من أنت فقالت : أنت أنت وأنا صرت فانية ولم يبق من وجودي أثر فاستراح بعون الله تعالى.
وسئل حضرة المولوي هل يعصي الصوفي قال : لا إلا أن يأكل طعاماً قبل الاشتهاء فإنه سم له وداء اللهم أعنا على إصلاح هذه النفس الأمارة يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} وهو عند أبي حنيفة اسم لكل ممتنع متوحش من الحيوانات سواء كان مأكول اللحم أو لم يكن والمراد ما عدا الفواسق وهي العقرب والحية والغراب والفارة والكلب العقور فإنها تقتل في الحل والحرم ﴿وَأَنتُمْ حُرُمٌ﴾ جمع حرام وهو المحرم وإن كان في الحل وفي حكمه من في الحرم وإن كان حلالاً أي لابس حله فالمحرم لا يتصيد أصلاً سواء كان في الحل أو في الحرم بالسلاح أو بالجوارح من الكلاب والطير والحلال يتصيد في الحل دون الحرام أي حرم مكة ومقداره من قبل المشرق ستة أميال ومن الجانب الثاني اثنا عشر ميلاً ومن الجانب الثالث ثمانية عشر ميلاً ومن الجانب الرابع أربعة وعشرون ميلاً هكذا قال الفقيه أبو جعفر.
وإنما ذكر القتل دون الذبح للإيذان بكونه في حكم الميتة فكل ما يقتله المحرم من الصيد لا يكون مذكي وغير المذكي لا يجوز أكله والمعنى لا تقتلوه والحال أنتم محرمون ﴿وَمَنْ﴾ شرطية ﴿قَتَلَهُ﴾ أي : الصيد المعهود البري مأكولاً كان أو غير مأكول حال كون القاتل كائناً ﴿مِّنكُمْ﴾ أي من المؤمنين ولعل المقصود من التقييد بالحال توبيخ المؤمن على عدم جريانه على مقتضى إيمانه ﴿مُّتَعَمِّدًا﴾ حال أيضاً من فاعل قتله أي ذاكراً لإحرامه عالماً بحرمة قتل ما يقتله والتقييد بالتعمد مع أن محظورات الإحرام يستوي فيها الخطأ والعمد لأن الأصل فعل المتعمد والخطأ لا حق به للتغليظ ﴿فَجَزَآءٌ﴾ أي : فعليه جزاء وفدية ﴿مِّثْلُ مَا قَتَلَ﴾ أي : مماثل لما قتل فهو صفة الجزاء والمراد به عند أبي حنيفة وأبي يوسف المثل باعتبار القيمة لا باعتبار الخلقة والهيئة فيتقوم الصيد حيث صيد أو في أقرب الأماكن إليه إن قتل في بر لا يباع ولا يشتري فيه فإن بلغت قيمته قيمة هدى تخير الجاني بأن يشتري بها ما قيمته قيمة الصيد فيهديه إلى الحرم وبين أن يشتري بها طعاماً فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعاً من تمر وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوماً فإن فضل ما لا يبلغ طعام مسكين تصدق به أو صام عنه يوماً كاملاً لأن الصوم مما لا يتبعض فيكون قوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٢١


الصفحة التالية
Icon