﴿وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ أي : وجعل الشهر الحرام الذي يؤدى فيه الحج وهو ذو الحجة قياماً لهم أيضاً فالمفعول الثاني محذوف ثقة بما مر ووجه كون الشهر الحرام سبباً لقيام الناس أن العرب كان يتعرض بعضهم لبعض بالقتل والغارة في سائر الأشهر فإذا دخل الشهر الحرام زال الخوف وقدروا على سفر الحج والتجارات آمنين على أنفسهم وأموالهم فكان سبباً لاكتساب منافع الدين والدنيا ومصالح المعاش والمعاد، وقد فضل الله الأشهر والأيام والأوقات بعضها على بعض كما فضل الرسل والأمم بعضها على بعض لتبادر النفوس وتسارع القلوب إلى إدراكها واحترامها وتتشوق الأرواح إلى إحيائها بالتعبد فيها ويرغب الخلق في فضائلها.
قال الإمام النيسابوري عشر ذي الحجة أفضل الأيام وأحبها عند الله تعالى بعد شهر رمضان لأنها هي التي ناجى فيها كليم الله موسى ربه وفيها أحرم جميع الخلق بالحج ووجد آدم التوبة في أيام العشر وإسماعيل الفداء وهود النجاة ونوح الانجاء ومحمد الرسالة وأصحابه الرضوان في البيعة وبشارة خيبر وفتح الحديبية ونزول المغفرة بقوله تعالى :﴿لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنابِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ (الفتح : ٢) وغير ذلك من الآيات والكرامات وصيام يوم من العشر كصيام ألف يوم وقيام ليلة منها كعبادة من حج واعتمر طول سنته فصوم هذا العشر مستحب استحباباً شديداً لا سيما التاسع وهو يوم عرفة لكن يستحب الفطر يوم عرفة للحجاج لئلا يلحقهم فتور عن أداء الطاعات المشروعة في ذلك اليوم ويؤدوها على الحضور والكمال وفي الحديث "خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" ﴿وَالْهَدْىَ﴾ أي : وجعل الهدي أيضاً قياماً لهم وهو ما يهدى إلى البيت ويذبح هناك ويفرق لحمه بين الفقراء فإنه نسك المهدي وقوام لمعيشة الفقراء فكان سبباً لقيام أمر الدين والدنيا، يقول الفقير :
٤٤٥
ومنه يعرف أن المقصود من القربان دفع حاجة الفقراء ولذا يستحب للمضحي أن يتصدق بأكثر أضحيته بل بكلها :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٤٤
هر كسى از همت والاي خويش
سود برد اودر خور كالاي خويش
وللحجاج يوم عيد القربان مناسك الذهاب من منى إلى المسجد الحرام فلغيرهم الذهاب إلى المصلى موافقة لهم والطواف فلغيرهم صلاة العيد لقوله عليه السلام :"الطواف بالبيت صلاة" وإقامة السنن من الحلق وقص الأظفار ونحوها فلغيرهم إزالة البدعة وإقامة السنة والقربان فلغيرهم أيضاً ذلك ولكن ليس كل مال يصلح لخزانة الرب ولا كل قلب يصلح لمعرفة الرب ولا كل نفس تصلح لخدمة الرب، وفي "المثنوي" :
آن تو كل كو خليلان ترا
تا نبرد تيغت اسماعيل را
آن كرامت ون كليمت ازكجا
تاكنى شهراه قعر نيل را
﴿وَالْقَلَائدَ﴾ أي : وجعل الله القلائد أيضاً قياماً للناس وهي جمع قلادة وهي ما يقلد به الهدي من نعل أو لحاء شجر ليعلم به أنه هدي فلا يتعرض له بركوب أو حمل والمراد بالقلائد ذوات القلائد وهي البدن وهي الناقة والبقرة مما يجوز في الهدي والأضاحي وخصت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر وبهاء الحج بها أظهر ولذا ضحى عمر رضي الله عنه بنجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار لقوله تعالى :﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ (الحج : ٣٢) ووجه كون القلائد سبباً لقيام الناس أن من قلد هدياً لم يتعرض له أحد وربما كانوا يقلدون رواحلهم إذا رجعوا من مكة من لحاء شجر الحرم فيأمنون بذلك وكان أهل الجاهلية يأكل الواحد منهم القضيب والشجر من الجوع وهو يرى الهدي والقلائد فلا يتعرض له تعظيماً له ﴿ذَالِكَ﴾ إشارة إلى الجعل منصوب بفعل مقدر أي : شرع الله ذلك وبين ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ﴾ فإن تشريع هذه الشرائع المستتبعة لدفع المضار الدينية والدنيوية قبل وقوعها وجلب المنافع الأولوية والأخروية من أوضح الدلائل على حكمة الشارع وعلى عدم خروج شيء من علمه المحيط ﴿وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾ تعميم بعد تخصيص للتأكيد ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ وعيد لمن انتهك محارمه وآصر على ذلك﴿وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ وعد لمن حافظ على مراعاة حرماته تعالى أو انقطع عن الانتهاك بعد تعاطيه ﴿مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلَـاغُ﴾ أي : تبليغ الرسالة في أمر الثواب والعقاب وهو تشديد في إيجاب القيام بما أمر به أي : الرسول قد أتى بما وجب عليه من التبليغ بما لا مزيد عليه وقامت عليكم الحجة ولزمتكم الطاعة فلا عذر لكم من بعد في التفريط ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ أي : ما تظهرون من القول والعمل وما تخفون فيؤاخذكم بذلك نقيراً وقطميراً، قال السعدي قدس سره :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٤٤
برو علم يك ذره وشيده نيست
كه نهان ويدا بنزدش يكيست