والإشارة في الآية أن الله تعالى كما جعل الكعبة في الظاهر قياماً للعوام والخواص يلوذون به ويستنجحون بالتضرع والابتهال هناك حاجاتهم الدنيوية والأخروية كذلك جعل كعبة القلب في الباطن قياماً للخواص وخواص الخواص ليلوذوا به بطريق دوام الذكر ونفي الخواطر بالكلية وإثبات
٤٤٦
الحق بالربوبية والواحدية بأن لا موجود إلا هو ولا وجود إلا له ولا مطلوب ولا محبوب إلا هو وسماه البيت الحرام ليعلم أنه بيت الله على الحقيقة وحرام أن يسكن فيه غيره فيراقبه عن ذكر ما سوى الحق وحبه وطلبه إلى أن يفتح الله أبواب فضله ورحمته والشهر الحرام هو أيام الطلب والسير إلى الله حرام على الطالب فيها مخالطة الخلق وملاحظة ما سوى الحق والهدى هو النفس البهيمية تساق إلى كعبة القلب مع القلائد وهي أركان الشريعة فتذبح على عتبة القلب بسكين آداب الطريقة عن شهواتها ولذاتها الحيوانية وفي قوله تعالى :﴿ذَالِكَ لِتَعْلَمُوا﴾ الآية إشارة إلى أن العبد إذا وصل إلى كعبة القلب فيرى بيت الله ويشاهد أنوار الجمال والجلال فبتلك الأنوار يشاهد ما في السموات وما في الأرض لأنه ينظر بنور الله فيعلم على التحقيق ﴿أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ يسدل الحجاب لغير الأحباب ممن ركنوا إلى الدنيا واغتروا بزينتها وشهواتها ﴿وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ لطالبيه وقاصدي حضرته بفتح الأبواب ورفع الحجاب ﴿مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلَـاغُ﴾ بالقال والحال ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ﴾ من الإيمان بأقدار اللسان وعمل الأركان ﴿وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ من تصديق الجنان أو التكذيب وصدق التوجه وخلوص النية في طلب الحق كذافي "التأويلات النجمية" ﴿قُل لا يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ﴾ نزلت في حجاج اليمامة لما هم المسلمون أن يوقعوا بهم بسبب أنه كان فيهم الحطيم وقد أتى المدينة في السنة السابقة واستاق سرح المدينة فخرج في العام القابل وهو عام عمرة القضاء حاجاً فبلغ ذلك أصحاب السرح فقالوا للنبي عليه السلام هذا الحطيم خرج حاجاً مع حجاج اليمامة فخل بيننا وبينه فقال عليه السلام :"إنه قلد الهدي" ولم يأذن لهم في ذلك بسبب استحقاقهم الأمن بتقليد الهدايا فنزلت الآية تصديقاً له عليه السلام في نهيه إياهم عن تعرض الحجاج وإن كانوا مشركين وقد مضت هذه القصة في أول السورة عند قوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٤٤
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَآئِرَ اللَّهِ} الآية وبقي حكم هذه الآية إلى أن نزلت سورة البراءة فنسخ بنزولها لأنه قد كان فيها ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـاذَا﴾ (التوبة : ٢٨) وفيها ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ (التوبة : ٥) فنسخ حكم الهدي والقلائد والشهر الحرام والإحرام وأمنهم بها بدون الإسلام وسبب النزول وإن كان خاصاً لكن حكمه عام في نفي المساواة عند الله بين الدري وبين الجيد ففيه ترغيب في الجيد وتحذير على الدري ويتناول الخبيث والطيب أموراً كثيرة : منها الحرام والحلال فمثقال حبة من الحلال أرجح عند الله من ملىء الدنيا من الحرام لأن الحرام خبيث مردود والحلال طيب مقبول فهما لا يستويان أبداً كما أن طالبهما كذلك إذ طالب الخبيث خبيث وطالب الطيب طيب والله تعالى يسوق الطيب إلى الطيب كما أنه يسوق الخبيث إلى الخبيث كما قال :﴿الْخَبِيثَـاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَـاتِا وَالطَّيِّبَـاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَـاتِ﴾ (النور : ٢٦) والطيب عند سادات الصوفية قدس الله أسرارهم ما كان بلا فكر وحركة نفسانية سواء سيق من طرف صالح أو فاسق لأنه رزق من حيث لا يحتسب وهو مقبول وخلافه مردود ولا بعد في هذا لأن حسنات الأبرار سيآت المقربين وبينهما بون بعيد وأيضاً الخبيث من الأموال ما لم يخرج منها حق الله والطيب ما أخرجت منه
٤٤٧
الحقوق والخبيث ما أنفق في وجوه الفساد والطيب ما أنفق في وجوه الطاعات والطيب من الأموال ما وافق نفع الفقراء في أوقات الضرورات والخبيث ما دخل عليهم في وقت استغنائهم فاشتغلت خواطرهم بها.
ومنها المؤمن والكافر والعادل والفاسق فالمؤمن كالعسل والكافر كالسم والعادل كشجرة الثمرة والفاسق كشجرة الشوك فلا يستويان على كل حال.
ومنها الأخلاق الطيبة والأخلاق الخبيثة فمثل التواضع والقناعة والتسليم والشكر مقبول ومثل الكبر والحرص والجزع والكفران مردود لأن الأول من صفات الروح والثاني من صفات النفس والروح طيب علوي والنفس خلافه، وفي "المثنوي" :
هين مرواندر ي نفسي وزاغ
كو بكورستان برد نه سوى باغنفس اكره زيركست وخرده دان


الصفحة التالية
Icon