ـ روي ـ أنه لما نزلت ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ قال سراقة بن مالك أكل عام؟ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى أعاد ثلاثاً فقال :"لا ولو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم فاتركوني ما تركتم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإن أمرتكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" فنزلت وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه السلام كان يخطب ذات يوم غضبان من كثرة ما يسألون عنه مما لا يعنيهم فقال : لا أسأل عن شيء إلا أجبت فقال رجل : أين أبي فقال :"في النار" وقال آخر من أبي فقال :"حذاقة" وكان يدعي لغيره فنزلت ﴿إِن تُبْدَ لَكُمْ﴾ الشرطية وما عطف عليها صفتان لأشياء والمساءة معلقة بالإبداء والإبداء معلق بالسؤال.
فالمعنى لا تسألوا عن أشياء إن تسألوا عنها في زمان الوحي تظهر لكن وإن تظهر لكم تغمكم والعاقل لا يفعل ما يغمه.
قال البغوي : فإن من سأل عن الحج لم يأمن أن يأمر به في كل عام فيسوءه ومن سأل عن نسبه لم يؤمن أن يلحقه بغيره فيفتضح ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْهَا﴾ استئناف مسوق لبيان أن نهيهم عنها لم يكن لمجرد صيانتهم عن المساءة بل لأنها في نفسها معصية مستتبعة للمؤاخذة وقد عفا عنها وفيه من حثهم على الجد في الانتهاء عنها ما لا يخفى وضمير عنها للمسألة المدلول عليها بلا تسألوا أي : عفا الله عن مسألتكم السالفة حيث لم يفرض عليكم الحج في كل عام جزاء بمسألتكم وتجاوز عن عقوبتكم الأخروية بسبب مسألتكم فلا تعودوا إلى مثلها ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ أي : مبالغ في مغفرة الذنوب والأغضاء عن المعاصي ولذلك عفا عنكم ولم يؤاخذكم بعقوبة ما فرط منكم فالجملة اعتراض تذييلي مقرر لعفوه تعالى ﴿قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ﴾ أي : سألوا هذه المسألة لكن لا عينها بل مثلها في كونها محظورة ومستتبعة للوبال وعدم التصريح بالمثل للبالغة في التحذير ﴿مِن قَبْلِكُمْ﴾ متعلق بسألها ﴿ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا﴾ أي : بسببها ﴿كَـافِرِينَ﴾ فإن بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم في أشياء فإذا أمروا تركوها فهلكوا كما سأل قوم ثمود صالحاً الناقة وسأل قوم عيسى مائدة، قال أبو ثعلبة : إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدوداً فلا تعتدوها وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٤٤
قال الحسين الواعظ الكاشفي في تفسيره :(س نيكبخت آنست كه از حال ديكران عبرت كيرد بقول وفعل فضولي اشتغال ننمايد ودرين باب كفته اند) :
بكوى آنه كفتن ضرورت شود
دكر كفته هارا فروبنددر
بجاي آر فعلى كه لازم بود
زافعال بي حاصل اندر كذر
وكان رجل يحضر مجلس أبي يوسف كثيراً ويطيل السكوت فقال له يوماً مالك لا تتكلم ولا تسأل عن مسألة قال : أخبرني أيها القاضي متى يفطر الصائم؟ قال إذا غابت الشمس قال : فإن لم تغب إلى نصف الليل فتبسم وتمثل ببيت جرير :
٤٤٩
وفي الصمت زين للخلي وإنما
صحيفة لب المرء أن يتكلما
وفي الحديث :"عجبت من بني آدم وملكاه على نابيه فلسانه قلمهما وريقه مدادهما كيف يتكلم فيما لا يعنيه".
والإشارة في الآيتين أن الله تعالى نهى أهل الإيمان أن يتعلموا العلوم اللدنية وحقائق الأشياء بطريق السؤال لأنها ليست من علوم القال وإنما هي من علوم الحال فقال : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَآءَ} أي : عن حقائق أشياء ﴿إِن تُبْدَ لَكُمْ﴾ بيانها بطريق القال ﴿تَسُؤْكُمْ﴾ إذا لم تهتدوا إلى الحقائق ببيان القال فتقع عقولكم المشوبة بآفات الهوى والوهم والخيال في الشبهات فتتهالكوا في أوديتها كما كان حال طوائف الفلاسفة إذ طلبوا علوم حقائق الأشياء بطريق القال والبراهين المعقولة فما كانت منها مندرجة تحت نظر العقول المجردة عن شوائب الوهم والخيال أصابوها وما ضاق نطاق العقول عن دركها استزلهم الشيطان عند البحث عن الصراط المستقيم وأوقعهم في أودية الشبهات وبوادي الهلكات فهلكوا وأهلكوا خلقاً عظيماً بتصانيفهم في العلوم الإلهية وبعضهم خلطوها بعلم الأصول وقرروا شبهاتهم فيها فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل وما علموا أن تعلم علوم الحقائق بالقال محال وأن تعلمها إنما يحصل بالحال كما كان حال الأنبياء مع الله فقد علمهم علوم الحقائق بالإراءة لا بالرواية فقال تعالى :﴿وَكَذَالِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ (الأنعام : ٧٥) وقال في حق النبي عليه السلام :﴿لِنُرِيَه مِنْ ءَايَـاتِنَآ﴾ (الإسراء : ١) وقال :﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَـاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ وقال عليه السلام :"أرنا الأشياء كما هي" وكما كان حال الأمة مع النبي عليه السلام كان يعلمهم الكتاب بالقال والحكمة بالحال بطريق الصحة وتزكية نفوسهم عن شوائب آفات النفس وأخلاقها كقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٤٤


الصفحة التالية
Icon