﴿يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ (آل عمران : ١٦٤) وقال تعالى فيمن تحقق له فوائد الصحة على موائد المتابعة ﴿سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ (فصلت : ٥٣) ثم قال :﴿وَإِن تَسْـاَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ﴾ أي : وإن كان لا بد لكم من السؤال عن حقائق الأشياء فاسألوا عنها بعد نزول القرآن أي : من القرآن ليخبركم عن حقائقها على قدر عقولكم.
أما العوام منكم فيؤمنون بمتشابهات القرآن فإنها بيان حقائق الأشياء ويقولون كل من عند ربنا ولا يتصرفون فيها بقولهم طلباً للتأويل فإنه لا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم وهم الخواص.
وأما أخص الخواص فيفهمون مما يشير القرآن إليه من حقائق الأشياء بالرموز والإشارات والمتشابهات ما لا يفهم غيرهم كما أشار بقصة موسى والخضر إلى أن تعلم العلم اللدني إنما يكون بالحال في الصحة والمتابعة والتسليم وترك الاعتراض على الصاحب المعلم لا بالقال ولا بالسؤال لقوله تعالى :﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا﴾ (الكهف : ٦٦ ـ ٦٧) يعني في المتابعة وترك الاعتراض.
﴿قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِى لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى فَلا تَسْـاَلْنِي عَن شَىءٍ﴾ (الكهف : ٦٩ ـ ٧٠) يعني إن من شرط المتابعة ترك السؤال عن أفعال المعلم وغيرها فلما لم يستطع موسى معه صبراً ليتعلم بالحال وفتح باب القال والسؤال فقال : أخرقتها لتغرق أهلها أقتلت نفساً زكية فما واساه الخضر وقال :﴿قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا﴾ (الكهف : ٧٥) يعني : موسى
٤٥٠
﴿إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْءا بَعْدَهَا فَلا تُصَـاحِبْنِى﴾ (الكهف : ٧٦) يشير إلى أن تعلم العلم اللدني بالحال في الصحبة والمتابعة والتسليم لا بالقال والسؤال وفي السؤال الانقطاع عن الصحبة فافهم جداً فلما عاد إلى الثالثة إلى السؤال وقال :﴿لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَـاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ﴾ (
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٤٤
الكهف : ٧٧) ثم قال :﴿عَفَا اللَّهُ عَنْهَا﴾ أي : عما سألتم وطلبتم من علوم الحقائق بالقال قبل نزول هذه الآية ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾ لمن تاب ورجع إلى الله في طلب علوم الحقائق بالقال والسؤال ﴿حَلِيمٌ﴾ لمن يطلب بالحال يحلم عنهم في أثناء ما يصدر منهم مما ينافي أمر الطلب إلى أن يوفقهم لما يوافق الطلب ثم قال :﴿قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ﴾ يعني من مقدمي الفلاسفة فقد شرعوا في طلب العلوم الإلهية بالقال ونظر العقل فوقعوا في أودية الشبهات ﴿ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَـافِرِينَ﴾ أي : بسبب الشبهات التي وقعوا فيها بتتبع القيل والقال وكثرة السؤال وترك متابعة الأنبياء عليهم السلام كذا في "التأويلات النجمية" ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ﴾ هو الجعل التشريعي ويتعدى إلى واحد أي : ما شرع وما وضع وما سن ﴿مَنْ﴾ مزيدة لتأكيد النفي ﴿بَحِيرَةٍ﴾ كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها أي : شقوا وحرموا ركوبها ودرها ولا تطرد عن ماء ولا مرعى فهي فعيلة من البحر وهو الشق بمعنى المفعولة ﴿وَلا سَآاـاِبَةٍ﴾ كان الرجل منهم يقول إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضى فناقتي سائبة وجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها فهي فاعلة من قولهم ساب الماء يسيب سيباً إذا جرى على وجه الأرض ويقال أيضاً سابت الحية فالسائبة هي التي تركت حتى تسيب حيث شاءت ﴿وَلا وَصِيلَةٍ﴾ كانوا إذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها واستحيوا الذكر من أجل الأنثى فلا يذبح لآلهتهم.
فمعنى الآية ما جعل الله أنثى تحلل ذكراً محرماً عند الانفراد فهي فعيلة بمعنى فاعلة ﴿وَلا حَامٍ﴾ كانوا إذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى فهو اسم فاعل من حمى يحمي أي : منع يقال حماه يحميه إذا حفظه ﴿وَلَـاكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ أي : يكذبون عمداً حيث يفعلون ما يفعلون ويقولون الله أمرنا بهذا وإمامهم عمرو بن لحي الخزاعي فإنه كان أقدم من ملك مكة وكان أول من غير دين إسماعيل فاتخذ الأصنام ونصب الأوثان وشرع البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٤٤


الصفحة التالية
Icon