الاعتبار لأن الثواب والعقاب إنما يدوران على الخاتمة وذلك غير معلوم لهم فلهذا المعنى قالوا ﴿لا عِلْمَ لَنَآ﴾ وفي الحديث :"إني على الحوض أنظر من يرد عليّ منكم والله ليقطعن دوني رجال فلأقولن أي ربي مني ومن أمتي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ما زالوا يرجعون على أعقابهم" وهو عبارة عن ارتدادهم أعم من أن يكون من الأعمال الصالحة إلى السيئة أو من الإسلام إلى الكفر وفي الحديث "يدعى نوح يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يا رب فيقول هل بلغت؟ فيقول : نعم فيقال لأمته هل بلغكم فيقولون ما أتانا من نذير فيقول من يشهد لك فيقول محمد وأمته فيشهدون أنه قد بلغ" فذلك قوله تعالى :﴿وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ﴾ (البقرة : ١٤٣) إنما شهد محمد وأمته بذلك مع أنهم بعد نوح لعلمهم بالقرآن أن الأنبياء كلهم قد بلغوا أممهم ما أرسلوا به وقد جاء في الرواية "ثم يؤتى بمحمد فيسأل عن حالة أمته فيزكيهم ويشهد بصدقهم" فذلك قوله تعالى :﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (البقرة : ١٤٣) فعلى العاقل أن يجيب إلى دعوة الحق وينتصح بنصيحة الناصح الصدق :
امروز قدر ند عزيزان شناختم
يا رب رواه ناصح ما ازتو شادباد
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٤٤
واعلم أن القيامة يوم يتجلى الحق فيه بالصفة القهارية قال تعالى :﴿لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ (غافر : ١٦).
قال حضرة شيخنا العلامة أبقاه الله بالسلامة هذا ترتيب أنيق فإن الذات الأحدي يدفع بوحدته الكثرة وبقهره الآثار فيضمحل الكل فلا يبقى سواه تعالى وقيامة العارفين دائمة لأنهم يكاشفون الأمور ويشاهدون الأحوال في كل موطن على ما هي عليه وهي القيامة الكبرى وحشر الخواص بل الأخص اللهم اجعلنا ممن مات بالاختيار قبل الموت بالاضطرار ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ أي : اذكروا أيها المؤمنون وقت قول الله تعالى لعيسى ابن مريم وهو يقوم القيامة ﴿اذْكُرْ نِعْمَتِى﴾ أي : إنعامي ﴿عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ﴾ وليس المراد بأمره عليه السلام يومئذٍ بذكر النعم تكليف الشكر إذ قد مضى وقته في الدنيا بل ليكون حجة على من كفر حيث أظهر الله على يده معجزات كثيرة فكذبته طائفة وسموه ساحراً وغلاً آخرون فاتخذوه إلهاً فيكون ذلك حسرة وندامة وعليهم يوم القيامة والفائدة في ذكر أمه أن الناس تكلموا فيها ما تكلموا ثم عد الله تعالى عليه نعمة نعمة فقال :﴿إِذْ أَيَّدتُّكَ﴾ ظرف لنعمتي أي اذكر أنعامي عليكما وقت تأييدي لك ﴿بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ أي بجبريل الطاهر على أن القدس الطهور وأضيف إليه الروح مدحاً له بكمال اختصاصه بالطهر كما في رجل صدق ومعنى تأييده به أن جبريل عليه السلام يجعل حجته ثابتة مقررة ﴿تُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلا﴾ استئناف مبين لتأييده عليه السلام والمعنى تكلمهم في الطفولة والكهولة على سواء أي : من غير أن يوجد تفاوت بين كلامه طفلاً وبين كلامه كهلاً في كونه صادراً عن كمال العقل وموافقاً لكمال الأنبياء والحكماء فإنه تكلم حال كونه في المهد أي : في حجر الأم والذي يربي فيه الطفل بقوله :﴿إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَانِىَ الْكِتَـابَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّا * وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَـانِى بِالصَّلَواةِ وَالزَّكَواةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ (مريم : ٣١) وتكلم كهلاً بالوحي والنبوة فتكلمه في تينك الحالتين على حد واحد وصفة واحدة من غير تفاوت معجزة عظيمة حصلت له وما حصلت
٤٥٩
لأحد من الأنبياء قبله ولا بعده وكل معجزة ظهرت منه كما أنها نعمة في حقه فكذلك هي نعمة في حق أمه لأنها تدل على براءة ساحتها مما نسبوها إليه واتهموها به وحمل مريم ما كان من الرجال كسائر النساء وإنما كان بروح منه كما قال تعالى :﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا﴾ (التحريم : ١٢) فهذه نعمة خاصة بمريم وكذلك ولادة عيسى وخلفته ما كان من نطف الرجال وإنما كانت كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فهذه نعمة خاصة بعيسى.
والكهل من الرجال الذي جاوز الثلاثين ووخطه الشيب أي : خالطه وقيل المراد بتكلمه كهلاً أن يكلم الناس بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان بناء على أنه رفع قبل أن أكهل فيكون قوله تعالى :﴿وَكَهْلا﴾ دليلاً على نزوله.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٤٤


الصفحة التالية
Icon