قال في "التأويلات النجمية" ﴿رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآااِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ﴾ أي : مائدة الأسرار والحقائق التي تنزلها من سماء العناية عليها أطعمة الهداية ﴿تَكُونُ لَنَا﴾ يعني لأهل الحق وأرباب الصدق ﴿عِيدًا﴾ نفرح بها ﴿لاوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا﴾ أي : لأول أنفاسنا وآخرها فإن أرباب الحقيقة يراقبون الأنفاس أولها وآخرها لتصعد مع الله وتهوى مع الله ففي صعود النفس مع الله يكون عيداً لهم وفي هويه مع الله عيداً لهم، كما قال بالفارسية :(صوفيان دردمي دوعيد كنند) ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ أي : اذكر يا محمد للناس وقت قول الله تعالى لعيسى عليه السلام في الآخرة توبيخاً للكفرة وتبكيتاً لهم بإقراره عليه السلام على رؤوس الاشهاد بالعبودية وأمرهم لهم بعبادته تعالى ﴿ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَاهَيْنِ﴾ مفعول ثاني للاتخاذ ﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾ حال من فاعل اتخذوني كأنه قيل صيروني وأمي إلهين أي : معبودين متجاوزين عن ألوهية الله تعالى ومعبوديته والمراد اتخاذهما بطريق إشراكهما به سبحانه كما في قوله تعالى :﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا﴾ (البقرة : ١٦٥) لأن أحداً منهم لم يذهب إلى القول بإلهية عيسى ومريم مع القول بنفي إلهية الله تعالى ولما لم يكن المقصود إنكار نفس القول بل قصد توبيخ من قال به ولي حرف الاستفهام المبتدأ ولم يقل كذا لأنه يفيد إنكار نفس القول.
قال المولى أبو السعود رحمه الله ليس مدار أصل الكلام أن القول متيقن والاستفهام لتعيين القائل كما هو المتبادر من إيلاء الهمزة المبتدأ على الاستعمال الفاشي وعليه قوله تعالى :﴿ءَأَنتَ فَعَلْتَ هَاذَا بِاَالِهَتِنَا﴾ (الأنبياء : ٦٢) ونظائره بل على أن المتيقن هو الاتخاذ والاستفهام لتعيين أنه بأمره عليه السلام أو من تلقاء أنفسهم كما في قوله تعالى :
٤٦٥
﴿ءَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَاؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ﴾ (الفرقان : ١٧) انتهى.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٤٤
قال في "التأويلات النجمية" : الإثبات بعد الاستفهام نفي كما أن النفي بعد الاستفهام إثبات كقوله :﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ أي : أنا ربكم ونظير النفي في الإثبات قوله تعالى :﴿مَّعَ اللَّه بَلْ﴾ أي : ليس مع الله إله فمعناه ما قلت أنت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ولكنهم بجهلهم قد بالغوا في تعظيمك حتى أطروك وجاوزوا حدك في المدح ولهذا قال النبي عليه السلام :"لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم" انتهى.
فإن قيل ما وجه هذا السؤال مع علمه تعالى أن عيسى عليه الصلاة والسلام لم يقله، قيل ذلك لتوبيخ قومه وتعظيم أمر هذه المقالة.
قال أبو روق إذا سمع عيسى هذا الخطاب ارتعدت مفاصله وانفجرت من أصل كل شعرة من جسده عين من دم وهذا الخطاب وإن كان ظاهره مع عيسى ولكن كان حقيقة مع الأمة لأن سنة الله أن لا يكلم الكفار يوم القيامة ولا ينظر إليهم ﴿قَالَ﴾ كأنه قيل فماذا يقول عيسى حينئذٍ فقيل يقول :﴿سُبْحَانَكَ﴾ علم للتسبيح أي : أنزهك تنزيهاً لألقابك من أن أقول ذلك أو من أن يقال في حقك ذلك ﴿مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ﴾ أي : ما يستقيم وما ينبغي لي أن أقول قولاً لا يحق لي أن أقوله ﴿إِن كُنتُ قُلْتُهُ﴾ أي : هذا القول ﴿فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾ لأني لا أقدر على هذا القول إلا بأن توجده فيّ وتكونه بقولك كن فصدوره عني مستلزم لعلمك به قطعاً فحيث انتفى العلم انتفى الصدور حتماً ضرورة أن عدم اللازم مستلزم لعدم الملزوم ﴿تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى﴾ أي : ما أخفيه في نفسي كما تعلم ما أعلنه ﴿وَلا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ﴾ أي : ولا أعلم ما تخفيه من معلوماتك فعبر عما يخفيه الله من معلوماته بقوله ما في نفسك للمشاكلة لوقوعه في صحبة قوله تعلم ما في نفسي فإن معلومات الإنسان مختفية في نفسه بمعنى كون صورها مرتسمة فيها بخلاف معلومات الله تعالى فإن علمه تعالى حضوري لا تنقطع صورة شيء منها في ذاته فلا يصح أن يحمل النفس على المعنى المتبادر ﴿إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ ما كان وما يكون ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَآ أَمَرْتَنِى بِهِ﴾
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٤٤