﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّـاكُمْ فِى الأرْضِ﴾ أي : جعلنا لكم منها مكاناً وقراراً وأقدرناكم على التصرف فيها على أي وجه شئتم.
﴿وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَـايِشَ﴾ أي : أنشأنا وأبدعنا لمصالحكم ومنافعكم فيها أسباباً تعيشون بها جمع معيشة وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرهما، والخطاب لقريش فإنه تعالى فضّلهم على العرب بأن مكنهم من الرحلة إلى الشام أوان الصيف ومن الرحلة إلى اليمن أوان الشتاء آمنين بسبب كونهم سكان حرم الله
١٣٨
تعالى ومجاوري بيته الشريف، ويتخطف الناس من حولهم فيتجرون بتينك الرحلتين ويكسبون ما يكون سبباً لحياتهم من المآكل والمشارب والملابس وغيرها.
﴿قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ﴾ فيما صنعت إليكم.
والإشارة أن التمكين لفظ جامع للتمليك والتسليط والقدرة على تحصيل أسباب كل خير وسعادة دنيوية كانت أو أخروية، وكمال استعداد المعرفة والمحبة والطلب والسير إلى الله ونيل الوصول، والوصال ما تشرف بهذا التمكين إلا الإنسان وبه كرم وفضل وبه يتم أمر خلافته، ولهذا أمر الملائكة بسجود آدم وبه منّ الله على أولاده بقوله :﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّـاكُمْ فِى الأرْضِ﴾ أي : سيرناكم ووهبنا لكم في خلافة الأرض ما لم نمكن أحداً غيركم في الأرض من الحيوانات ولا في السماء من الملائكة وجعلنا لكم خاصة فيها معايش، أي : جعلنا لكل صنف من الملك والحيوان والشيطان معيشة يعيش بها، أو جعلنا لكم فيها معايش ؛ لأن الإنسان مجموع من الملكية والحيوانية والشيطانية والإنسانية، فمعيشة الملك هي معيشة روحه، ومعيشة الحيوان هي معيشة بدنه، ومعيشة الشيطان هي معيشة نفسه الأمارة بالسوء، ولما حصل للإنسان بهذا التركيب مراتب الإنسانية وأنها لم تكن لكل واحد من الملك والحيوان والشيطان، وهي القلب والسرّ والخفي فمعيشة قلبه هي الشهود ومعيشة سره هي الكشوف ومعيشة خفيه هي الوصال والوصول قليلاً ما تشكرون، أي : قليلاً منكم من يشكر هذه النعم، أي : نعمة التمكن ونعمة المعايش برؤية هذه النعم والتحدث بها، فإن رؤية النعم شكرها والتحدث بالنعم أيضاً شكر كذا في التأويلات النجمية :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٣٦
نعمت بسى وشكر كزارنده اندكست
كوينده ساس الهي زصد يكست
واعلم أن النعمة إنما تسلب ممن لا يعرف قدرها ولا يؤدي شكرها ـ ـ روي ـ ـ أن بعض الأنبياء عليهم السلام سأل الله تعالى عن أمر بلعم وطرده بعد تلك الآيات والكرامات، فقال الله تعالى : لم يشكرني يوماً من الأيام على ما أعطيته، ولو شكرني على ذلك مرة لما سلبته فتيقظ أيها الرجل واحتفظ بركن الشكر جداً جداً، واحمد الله على مننه التي أعلاها الإسلام والمعرفة وأدناها مثلاً توفيق لتسبيح أو عصمة من كلمة لا تعنيك، عسى أن يتم نعمه عليك ولا يبتليك بمرارة الزوال فإن أمر الأمور، وأصعبها الإهانة بعد الإكرام، والطرد بعد التقريب والفراق بعد الوصال.
قال السعدي قدس سره :
نداند كسى قدر روز خوشى
مكر روزي افتد بسختي كشى
مكن تكيه برد ستكاهى كه هست
كه باشد كه نعمت نماند بدست
بسا اهل دولت ببازى نشت
كه دولت برفتش ببازى زدست
فضيحت بود خوشه اندوختن
س ازخر من خويشتن سوختن
تويش ازعقوبت در عفو كوب
كه سودى ندارد فغان زيروب
اكر بنده كوشش كند بنده وار
عز يزش ندارد خداونه كار
وكر كند رايست در بندكى
ز جاندارى افتد بخر بندكى
اللهم احفظنا من الكفران ووفقنا للشكر كل حين وآن.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٣٦
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَـاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَـاكُمْ﴾ أي :
١٣٩
خلقنا أباكم آدم طيناً غير مصور بصورته المخصوصة، ثم صورناه عبر عن خلق نفس آدم وتصويره بخلق الكل وتصويرهم تنزيلاً لخلقه، وتصويره منزلة خلق الكل، وتصويرهم من حيث أن المقصود من خلقه وتصويره تعمير الأرض بأولاده، فكان خلقه بمنزلة خلق أولاده فالإسناد في ضمير الجمع مجازي.
﴿ثُمَّ قُلْنَا للملائكة﴾ كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص.
﴿اسْجُدُوا لادَمَ﴾ سجدة تحية وتكريم ؛ لأن السجود الشرعي وهو وضع الجبهة على قصد العبادة، إنما هوتعالى حقيقة.
﴿فَسَجَدُوا﴾ أي : الملائكة بعد الأمر من غير تلعثم.
﴿إِلا إِبْلِيسَ﴾ أي : لكن إبليس.
﴿لَمْ يَكُن مِّنَ السَّـاجِدِينَ﴾ أي : ممن سجد لآدم، وإلا فهو كان ساجداًتعالى.
﴿قَالَ﴾ استئناف كأنه قيل فماذا قال الله تعالى حينئذٍ فقيل قال ﴿مَآ﴾ أي : أي شيء.
﴿مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ﴾ أي : أن تسجدو لا صلة كما في قوله تعالى :﴿لِّئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَـابِ﴾ (الحديد : ٢٩) أي : ليتحقق علم أهل الكتاب.
﴿إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ أي : وقت أمري إياك به.
﴿قَالَ﴾ إبليس.
﴿أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ﴾ أي : الذي منعني من السجود هو أني أفضل منه لأنك ﴿خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَه مِن طِينٍ﴾ والنار جوهر لطيف نوراني، والطين جسم كثيف ظلماني فهو خير منه، ولقد أخطأ اللعين حيث لاحظ الفضيلة باعتبار المادة والعنصر.


الصفحة التالية
Icon