﴿فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ من أي مكان شئتما، ومن أي شيء شئتما من نعم الجنة وثمارها موسعاً عليكما.
﴿وَلا تَقْرَبَا هَـاذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ اختلفوا في هذه الشجرة أيضاً وقد أبهم الله ذكرها وتعيينها، ولو كان في ذكرها مصلحة تعود إلينا لعينها لنا كما في غيرها كذا في "آكام المرجان".
﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّـالِمِينَ﴾ أي : فتصيرا من الذين ظلموا أنفسهم ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَـانُ﴾ قال في "الصحاح" : فوسوس لهما الشيطان يريد إليهما، ولكن العرب توصل بهذه الحروف كلها الفعل انتهى.
والوسوسة : الكلام الخفي المكرر يلقيه الشيطان إلى قلب البشر ليزين له ما هو المنكر شرعاً، وأول ما ابتدأهما به من كيده إياهما أنه ناح عليهما نياحة أحزنتهما حين سمعاها فقالا له : ما يبكيك، قال : أبكي عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة والكرامة فوقع ذلك في نفسهما، ثم أتاهما فوسوس إليهما وقال ما نهاكما كما يجيء.
﴿لِيُبْدِيَ لَهُمَا﴾ أي : ليظهر لهما.
واللام للعاقبة لأن اللعين إنما وسوس لهما ليوقعهما في المعصية لا لظهور عورتهما لكن لما كان عاقبة وسوسته ظهور سوءاتهما شبه ظهورهما بالغرض الحامل على الوسوسة، ويحتمل أن يكون اللام لام الغرض على أنه أراد بوسوسته أن يسوءهما،
١٤٤
أي يخزيهما بانكشاف عورتهما عند الملائكة، وكان قد علم أن لهما سوءة بقراءته كتب الملائكة ولم يكن آدم يعلم ذلك، وفي كون الانكشاف غرضاً لإبليس دليل على أن كشف العورة في الخلوة وعند الزوج من غير حاجة قبيح مستهجن في الطباع، ولم يقع نظر علي رضي الله عنه إلى عورته حذراً من أن يراها بالعين التي يرى بها جمال رسول الله صلى الله عليه وسلّم فإذا كان النظر إلى سوءته بهذه المرتبة فما ظنك بالنظر إلى سوءة الغير، وما أشد قبح كشف العورة قالت عائشة رضي الله عنها "ما رأى مني ولا رأيت منه" أي العورة.
﴿مَا وُارِيَ عَنْهُمَا﴾ أي : الذي ستر عنهما وهو مجهول وارى.
﴿مِن سَوْءَاتِهِمَا﴾ أي : عورتهما وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر ؛ لأنهما قد ألبسا ثوباً يستر عورتهما.
والسوءات جمع السوءة والتعبير بلفظ الجمع عن اثنين لكراهة اجتماع لفظي التثنية، ويحتمل أن يكون الجمع على أصل وضعه باعتبار أن كل عورة هي الدبر والفرج، وذلك أربعة فهي جمع وسميت العورة سوءة ؛ لأنه يسوء الإنسان انكشافها ؛ ﴿وَقَالَ﴾ عطف على وسوس بياناً وتفصيلاً لكيفية وسوسته.
﴿مَا نَهَـاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـاذِهِ الشَّجَرَةِ﴾ أي : عن أكلها لأمر مّا.
﴿إِلا﴾ كراهة ﴿أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ﴾ أي : كالملائكة في لطافة البنية والاستغناء عن التغذي بالأطعمة والأشربة ونحوهما، وفضل الملائكة من بعض الوجوه لا يدل على فضلهم على الأنبياء مطلقاً لجواز أن يكون لنوع البشر فضائل أخر راجحة على ما للملك، فليس المراد انقلاب حقيقتهما البشرية إلى الحقيقة الملكية فإنه محال.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٤٤
قال سعدي المفتي : فيه بحث إذ لا مانع منه عند الأشاعرة لتجانس الأجسام انتهى.
واعلم : أن الله تعالى باين بين الملائكة والجن والإنس في الصورة والأشكال فمن حصل على بنية الإنسان ظاهراً وباطناً، فهو إنسان فلو قلب الإنسان إلى بنية الملك لخرج بذلك عن كونه إنساناً لكن الملك والشيطان لا يخرجان بالتشكلات الظاهرية المختلفة عن حقيقتهما، ﴿أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَـالِدِينَ﴾ الذين لا يموتون ويخلدون في الجنة.
﴿وَقَاسَمَهُمَآ﴾ أي : أقسم لهما، فالقسم إنما وقع من إبليس فقط إلا أنه عبر عن إقسامه بزنة المفاعلة للدلالة على أنه اجتهد في القسم اجتهاد المقاسم، وهو الذي حلف في مقابلة حلف شخص آخر.
﴿إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّـاصِحِينَ﴾ فيما أقول، والنصح بذل المجهود في طلب الخير في حق غيره.
فنزلهما إلى الأكل من الشجرة وحطهما من المرتبة العالية وهي مرتبة الطاعة إلى المنزلة السافلة، وهي الحالة المغضبة والتدلية إرسال الشيء من الأعلى إلى الأسفل كإرسال الدلو في البئر.
﴿بِغُرُورٍ﴾ أي : بسبب تغريره إياهما باليمين بالله كاذباً، وكان اللعين أول من حلف بالله كاذباً، وظن آدم أن أحداً لا يحلف بالله كاذباً فاغترّ به فإن شأن المؤمن أن يعتقد بصدق من حلف بالله لتمكن عظمة اسم الله تعالى في قلبه وكان بعض العلماء.
يقول : من خادعنا بالله خدعنا وفي الحديث :"المؤمن غرّ كريم والفاجر خبّ لئيم" ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا﴾ أي : فلما وجدا طعمها آخذين في الأكل منها أخذهما العقوبة وشؤم المعصية فتهافت عنهما لباسهما، وظهرت لهما عوراتهما فاستحيا.
وفي الأخبار أن غيرهما لم ير عورتهما، قيل كان لباسهما في الجنة ظفراً في أشد اللطافة واللين والبياض، يكون حاجباً من النظر إلى أصل البدن
١٤٥


الصفحة التالية
Icon