قال في "آكام المرجان في أحكام الجان" : لو كثف الله أجسامهم وقوّى شعاع أبصارنا لرأيناهم، أو لو كثفهم وشعاع أبصارنا على ما هو عليه من غير أن يقوى لرأيناهم، ألا ترى أن الريح ما دامت رقيقة لطيفة لا ترى فإذا كشفت باختلاف الغبار رأيناهم ولم يمتنع دخولهم في أبداننا كما يدخل الريح والنفس المتردد الذي هو الروح في أبداننا من التخرق والتخلخل، وفي الحديث :"إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" وقد يحتاج في إبراء المصروع ودفع الجن عنه إلى الضرب إنما يقع على الجني ولا يحس به المصروع، ولو كان على الأنسي لقتله وكذا يجوز دخولهم في الأحجار إذا كانت مخلخلة كما يجوز دخول الهواء فيها.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٤٧
فإن قلت لو دخل الجنّ في جسد ابن آدم لتداخلت الأجسام ولاحترق الإنسان؟.
قلت : الجسم اللطيف يجوز أن يدخل إلى مخاريق الجسم الكثيف كالهواء الداخل في سائر الأجسام، ولا يؤدي ذلك إلى اجتماع الجواهر في حيز واحد ؛ لأنها لا تجتمع إلا على طريق المجاورة لا على سبيل الحلول، وإنما يدخل في أجسامنا كما يدخل الجسم الرقيق في الظروف، والجن ليسوا بنار محرقة، بل هم خلقوا من نار في الأصل، كما خلق آدم من التراب فالنسبة باعتبار الجزء الغالب.
قال في "بحر الحقائق" : الإشارة إنهم إنما يرونكم من حيث البشرية التي هي منشأ الصفات الحيوانية، وإنكم محجوبون بهذه الصفات عن رؤيتهم لا من حيث الروحانية التي هي منشأ علوم الأسماء والمعرفة، فإنهم لا يرونكم في هذا المقام وأنتم ترونهم بالنظر الروحاني بل بالنظر الرباني انتهى، ثم قوله :﴿إِنَّه يَرَاـاكُمْ﴾ تعليل للنهي ببيان أنه عدو صعب الاحتراز عن ضرره فإن العدو الذي يراك ولا تراه شديد المؤونة لا يتخلص منه إلا من عصمه الله فلا بد أن يكون العاقل على حذر عظيم من ضرره.
فإن قيل : كيف نحاربهم ونحترز عنهم ونحن لا نراهم؟.
قلنا : لم نؤمر بمحاربة أعيانهم وإنما أمرنا بدفع وسوستهم، وعدم قبول ما ألقاه في قلوبنا بالاستعاذة منه إلى الله تعالى ـ ـ روي ـ ـ عن ذي النون المصري أنه قال : إن كان هو يراك من حيث لا تراه، فإن الله يراه من حيث لا يرى الله، فاستعن بالله عليه فإن كيد الشيطان كان ضعيفاً.
﴿إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَـاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ بما أوجدنا بينهم من التناسب في الخذلان والغواية، فصار بعضهم قرين بعض وأغواه، فالأولياء : جمع ولي بمعنى الصديق ضد العدو يقال منه تولاه أي اتخذه صديقاً وخليلاً.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٤٧
وذكر عن وهب بن منبه أنه قال : أمر الله تعالى إبليس أن يأتي محمداً عليه السلام ويجيبه عن كل ما يسأله فجاء على صورة شيخ وبيده عكازة فقال له :"من أنت"؟ قال أنا إبليس قال :"لماذا جئت"؟ قال : أمرني ربي أن آتيك وأجيبك فأخبرك عما تسألني، فقال عليه الصلاة والسلام :"فكم أعداؤكم من أمتي"؟ قال : خمسة عشر أنت يا محمد، وإمام عادل، وغني متواضع، وتاجر صدوق، وعالم متخشع، ومؤمن ناصح، ومؤمن
١٥٠
رحيم القلب، وثابت على التوبة، ومتورع عن الحرام، ومديم على الطهارة، ومؤمن كثير الصدقة، وحسن الخلق مع الناس، ومن ينفع الناس، وحامل القرآن مديم عليه، وقائم الليل والناس نيام قال :"فكم رفقاؤك من أمتي"؟ فقال عشرة.
سلطان جائر، وغني متكبر، وتاجر خائن، وشارب الخمر والقتال، وصاحب الرياء، وآكل مال اليتيم، وآكل الربا، ومانع الزكاة، والذي يطيل الأمل فهؤلاء أصحابي وإخواني" فظهر أن الشياطين كما أنهم أولياء لأهل الكفر كذلك هم أولياء لمن هو في حكم أهل الكفر من أهل المعصية ونسأل الله العناية والتوفيق ـ ـ ويحكى ـ ـ أن الخبيث إبليس تبدى ليحيى بن زكرياء عليهما السلام فقال : إني أريد أن أنصحك، قال : كذبت أنت لا تنصحني، ولكن أخبرني عن بني آدم قال : هم عندنا على ثلاثة أصناف : أما الصنف الأول : منها فأشدّ الأصناف علينا نقبل عليه حتى نفتنه ونتمكن منه ثم يفزع إلى الاستغفار والتوبة، فيفسد علينا كل شيء أدركنا منه، ثم نعود له فيعود فلا نحن نيأس منه ولا نحن ندرك منه حاجتنا فنحن من ذلك في عناء.
وأما الصنف الثاني، فهم في أيدينا بمنزلة الكرة في أيدي صبيانكم نتلقفهم كيف شئنا قد كفونا أنفسهم، وأما الصنف الآخر : فهم مثلك معصومون لا نقدر منهم على شيء، قال يحيى : بعد ذلك هل قدرت مني على شيء قال : لا إلا مرة واحدة فإنك قدمت طعاماً تأكله، فلم أزل أشهيه إليك حتى أكلت منه أكثر مما تريد فنمت تلك الليلة فلم تقم إلى الصلاة كما كنت تقوم إليها، فقال له يحيى : لا جرم أني لا أشبع من طعام أبداً قال له الخبيث لا أنصح آدمياً بعدك.