﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ ما طاب لكم من الأطعمة والأشربة روي أن بني عامر في أيام حجهم كانوا لا يأكلون الطعام إلا قوتاً، ولا يأكلون دسماً يعظمون بذلك حجهم فهم المسلمون به فنزلت.
والإشارة كلوا مما يأكل أهل البيات في مقام العبودية واشربوا مما يشربون، كما قال عليه السلام :"أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" وكان عليه السلام يخص رمضان من العبادات بما لا يخص به غيره من الشهور، حتى إنه كان يواصل أحياناً ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة، وكان ينهى أصحابه عن الوصال فيقولون له فإنك تواصل فيقول :"لست كأحدكم إني أبيت" وفي رواية "أظل عند ربي يطعمني ويسقيني"، وقد اختلف العلماء في هذا الطعام والشراب المذكور على قولين : أحدهما إنه طعام وشراب حسي بالفم، قالوا وهذا حقيقة اللفظ ولا يجب العدول عنه وكان يؤتى بطعام من الجنة، والثاني : أن المراد به ما يغذيه الله به من معارفه وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه لقربه ونعيم محبته، وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ونعيم الأرواح وقرة الأعين وبهجة النفوس ـ ـ حكي ـ ـ أن مريداً خدم الشيخ منصور الحلاج في الكعبة حين كان مجاوراً سنتين، قال : كان يجيء له طعام من أرباب الخيرات فأضعه عنده ثم أجده في الصبح من غير نقصان فأطعمه فقيراً فما رأيته في السنتين أكل لقمة.
قال حضرة الشيخ الشهير بأفتاده أفندي : أن النبي عليه السلام إنما أكل في الظاهر لأجل أمته الضعيفة، وإلا فلا احتياج له إلى الأكل والشرب، وما روي من أنه، كان يشد الحجر" فهو ليس من الجوع بل من كمال لطافته لئلا يصعد إلى الملكوت فكان يشد الحجر حتى يحصل الاستقرار في عالم الإرشاد، قال يعني : إنه صلى الله عليه وسلّم كان ينظر إلى حدوث العالم فيتنعم بتجل البقاء انتهى كلامه.
﴿وَلا تُسْرِفُوا﴾ بتحريم الحلال فإن بتحريم الحلال يتحقق تضييع المال وهو إسراف أو بالتعدي إلى الحرام بأن يتناول ما حرمه الله عليه من المأكول والمشروب والملبوس، أو بإفراط الطعام والشره عليه بأن يتناول
١٥٤
ما لا يحتاج إليه البدن في قوامه، فإن ذلك أيضاً من قبيل الإسراف، ﴿إِنَّه لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ لا يرتضي فعلهم ولا يثني عليهم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٥٣
قال بعضهم : الإسراف هو أن يأكل الرجل كل ما يشتهيه، ولا شك أن من كان تمام همته مصروفاً إلى فكر الطعام والشراب كان أخس الناس وأذلهم.
خواجه را بين كه ازسحر تاشام
دارد انديشه شراب وطعام
شكم ازخوش دلى وخوش حالي
كاه ر ميكند كهى خالي
فارغ ازخلد وايمن از دوزخ
جاى أو مزبلست ويا مطبخ
(شيخ الإسلام عبد الله الأنصاري فرموده كه اكرهمه دنياراً لقمه سازى ودردهان درويشى نهى إسراف نباشد إسراف آن بودكه نه برضاى حق تعالى صرف كنى)
يك جوانراكه خير دائم داشت
ند ميداد راهبى در دير
كاى سر خير نيست دراسراف
كفت اسراف نيست اندرخير
قال في "التأويلات النجمية" : الإسراف نوعان : إفراط وتفريط فالإفراط ما يكون فوق الحاجة الضرورية، أو على خلاف الشرع أو على وفق الطبع والشهوة أو على الغفلة، أو على ترك الأدب أو بالشره أو على غير ذلك، والتفريط : أن ينقص من قدر الحاجة الضرورية ويقصر في حفظ القوة والطاقة للقيام بحق العبودية، أو يبالغ في أداء حق الربوبية بإهلاك نفسه فيضيع حقها، أو يضيع حقوق الربوبية بحظوظ نفسه أو يضيع حقوق القلب والروح والسر التي هي مستعدة لحصولها بحظوظ النفس فالمعنى لا تسرفوا، أي : لا تضيعوا حقوقنا ولا حقوقكم لحظوظكم انتهى ويروى أن هارون الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال لعلي بن حسين بن واقد، ليس في كتابكم من علم الطب شيء؟ والعلم علمان علم الأديان وعلم الأبدان، فقال له : إن الله تعالى قد جمع الطب كله في نصف آية من كتابنا قال : وما هي قال قوله تعالى :﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا﴾ فقال النصراني : وهل يؤثر عن رسولكم شيء من الطب قال : نعم جمع رسولنا صلى الله عليه وسلّم الطب في ألفاظ يسيرة قال : وما هي قال قوله :"المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء وعودوا كل جسم ما اعتاد" فقال النصراني : ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً.
وعن ابن عباس :"كل ما شئت وإلبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة" وينبغي لأهل الرخصة أن يقتصروا على أكلتين في اليوم والليلة في غير شهر رمضان ولأهل العزيمة على أكلة واحدة، فإن ما فوق الأكلتين للطائفة الأولى وما فوق الأكلة للثانية تجاوز عن الحد، وميل إلى الاتصاف بصفات البهائم.
والهند : جل معالجتهم الحمية يمتنع المريض عن الأكل والشرب والكلام عدة أيام فيبرأ فجانب الاحتماء أولى.


الصفحة التالية
Icon