﴿قُلْ﴾ لما طاف المسلمون في ثيابهم وأكلوا اللحم والدسم عيّرهم المشركون لأنهم كانوا يطوفون عراة، ولا يأكلون اللحم والدسم حال الإحرام فأمر الله حبيبه صلى الله عليه وسلّم أن يقول لهم :﴿مِنْ﴾ استفهام إنكار ﴿حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ﴾ من الثياب وسائر ما يتجمل به ﴿الَّتِى أَخْرَجَ﴾ بمحض قدرته.
﴿لِعِبَادِهِ﴾ من النبات كالقطن والكتان ومن الحيوان كالحرير والصوف ومن المعادن كالدروع.
﴿وَالْطَّيِّبَـاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ عطف على زينة الله، أي : من حرم أيضاً المستلذات من المآكل والمشارب كاللحوم والدسوم والألبان.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٥٣
اعلم : أن الرجل إذا أدى الفرائض وأحب أن يتنعم بمنظر حسن
١٥٥
وجوار جميلة فلا بأس به، فمن قنع بأدنى المعيشة وصرف الباقي إلى ما ينفعه في الآخرة فهو أولى ؛ لأن ما عند الله خير وأبقى لأن الاقتصار على أدنى ما يكفيه عزيمة، وما زاد عليه من التنعم ونيل اللذة رخصة دلت عليها هذه الآية ودلت أيضاً على أن الأصل في المطاعم والملابس والتجمل بأنواع التجملات الإباحة ؛ لأن الاستفهام في من إنكاري كما هو مذهب الشافعي، وأكثر أصحاب أبي حنيفة فإنهم قالوا إن الأصل في الأشياء الإباحة، وذهب بعضهم إلى التوقف وبعضهم إلى الحظر ووجه قول القائلين بالإباحة أنه سبحانه وتعالى غني على الحقيقة جواد على الإطلاق والغني الجواد لا يمنع ماله عن عبيده إلا ما كان فيه ضرر فتكون الإباحة هي الأصل باعتبار غناه سبحانه وجوده والحرمة لعوارض فلم تثبت فبقي على الإباحة، ووجه القول بالحظر أن الأشياء كلها مملوكةتعالى على الحقيقة والتصرف في ملك الغير لا يثبت إلا بإباحة المالك، فلما لم تثبت الإباحة بقي على الحظر لقيام سببه، وهو ملك الغير ووجه القول بالتوقف أن الحرمة والإباحة لا تثبت إلا بالشرع فقبل وروده لا يتصور ثبوت واحدة منهما فلا يحكم فيها بحظر ولا إباحة.
قال عبد القاهر البغدادي : وتفسير الوقف عندهم أن من فعل شيئاً قبل ورود الشرع لم يستحق بفعله من الله تعالى ثواباً ولا عقاباً.
﴿قُلْ هِىَ﴾ أي : الزينة والطيبات كما في "التفسير الفارسي" ﴿لِلَّذِينَ ءَامَنُوا﴾ أي : مستقره لهم ﴿فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا﴾ متعلق بآمنوا أو بالاستقرار الذي تعلق به للذين، والمقصود الأصلي من خلق الطيبات تقوية المكلفين على طاعة الله تعالى لا تقويتهم على الكفر والعصيان فهي مختصة لأصالة للمؤمنين والكفار تبع لهم في ذلك قطعاً لمعذرتهم ولذا لم يقل هي للذين آمنوا ولغيرهم في الدنيا.
﴿خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَـامَةِ﴾ لا يشاركهم فيها غيرهم، وإن اشترك فيها المؤمنون والكفار في الدنيا وانتصابها على الحال من المنوي في قوله :(للذين آمنوا)، ويوم القيامة متعلق بخالصة.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٥٣
والإشارة في الآية : من يمنعكم عن طلب كمالات أخرجها الله تعالى من غير الغيب لخواص عباده من الأنبياء والأولياء، ومن حرم عليكم نيل هذه الكرامات والمقامات فمن تصدى لطلبها وسعى لها سعياً فهي مباحة له من غير تأخير ولا قصور، وإضافة الزينة إلى الله لأنه أخرجها من خزائن ألطافه وحقائق أعطافه، فزين الأبدان بالشرائع وآثارها وزين النفوس بالآداب وأقدارها وزين القلوب بالشواهد وأنوارها وزين الأرواح بالمعارف وأسرارها، وزين الأسرار بالطوالع وأثمارها بل زين الظواهر بآثار التوفيق وزين البواطن بأنوار التحقيق، بل زين الظواهر بآثار السجود وزين البواطن بأنوار الشهود، بل زين الظواهر بآثار الجود وزين البواطن بأنوار الوجود والطيبات من الرزق، وإن أرزاق النفوس بحكم أفضاله، وأرزاق القلوب بموجب إقباله والطيبات من الرزق على الحقيقة ما لم يكن مشوباً بحقوق النفس وحظوظها، ويكون خالصاً من مواهبه وحقوقه، قل : هي للذين آمنوا في الحيوة الدنيا، أي : هذه الكرامات والمقامات لهؤلاء السادات في الدنيا مشوبة بشوائب الآفات النفسانية وكدورات الصفات الحيوانية خالصة يوم القيامة من هذه الآفات والكدورات كما قال :﴿وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾ (الأعراف : ٤٣) ﴿كَذَالِكَ نُفَصِّلُ الايَـاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أي : كتفصيلنا هذا الحكم نفصل سائر الأحكام لقوم يعلمون ما في تضاعيفها من المعاني الرائقة.
﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ﴾ أي : ما تفاحش قبحه من الذنوب وتزايد
١٥٦