وفي الإرشاد : ولعله قصد بيان غاية سرعة وقوع البعث والجزاء كأنهما حاصلان عند ابتداء التوفي كما ينبىء عنه قوله عليه السلام :"من مات فقد قامت قيامته" وإلا فهذا السؤال والجواب وما يترتب عليهما من الأمر بدخول النار، وما جرى بين أهلها من التلاعن والتقاول إنما يكون بعد البعث لا محالة.
﴿قَالَ﴾ الله تعالى لهم يوم القيامة أحد من الملائكة ﴿ادْخُلُوا فِى أُمَمٍ﴾ أي : كائنين في جملة أمم مصاحبين لهم ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ أي مضت ﴿مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالانسِ﴾ يعني كفار الأمم الماضية من النوعين ﴿فِى النَّارِ﴾ متعلق بقوله :(ادخلوا) وإنما قدم الجن على الإنس لتقدمهم عليهم في الخلقة وذلك أن الله تعالى لما خلق الجن، فمنهم مؤمن ومنهم كافر، فلما استولى أهل الكفر منهم على أهل الإيمان حتى استأصلوهم بعث الله إليهم جنداً من الملائكة كان رئيسهم إبليس فسلطهم الله عليهم حتى أهلكوا جميعهم، ثم خلق الله آدم بعدهم فخلق منه ذريته فمنهم كافر كقابيل، ومنهم مؤمن كهابيل إذ كان في كل زمان منهم أمة كافرة مستحقة لدخول النار، وأمة مؤمنة مستحقة لدخول الجنة حتى الآن إلى انقراض العالم كما قال عليه السلام :"لا تقوم الساعة وفي الأرض من يقول الله الله".
﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ﴾ من الأمم السابقة واللاحقة، أي : في النار.
﴿لَّعَنَتْ أُخْتَهَا﴾ التي ضلت بالاقتداء بها فلعنت المشركون المشركين واليهود اليهود والنصارى النصارى والمجوس المجوس وعلى هذا القياس، ويلعن الأتباع القادة يقولون لعنكم الله أنتم غررتمونا، فالمراد الأخت في الدين والملة ولم يقل أخاها لأنه أراد الأمة والجماعة.
﴿حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا﴾ غاية لما قبلها، والمعنى : أنهم يدخلونها فوجاً فوجاً لاعناً بعضهم بعضاً إلى انتهاء تداركهم وتلاحقهم في النار واجتماعهم فيها وأصل اداركوا تداركوا أدغمت التاء في الدال فاجتلبت همزة الوصل ﴿قَالَتْ أُخْرَاهُمْ﴾ أي : دخولاً وهم الأتباع وأخرى ههنا بمعنى آخرة مؤنث آخر مقابل أول لا مؤنث آخر بمعنى غير كقوله تعالى :﴿وِزْرَ أُخْرَى﴾ (الأنعام : ١٦٤) أي : لأجل أولاهم إذ الخطاب مع الله تعالى.
﴿رَبَّنَا هَـاؤُلاءِ أَضَلُّونَا﴾ أي : سنوا لنا الضلال عن الهدى بإلقاء الشبهة علينا فاقتدينا بهم.
﴿قَالَ ادْخُلُوا فِى﴾ أي : مضاعفاً ﴿مِنَ النَّارِ﴾ لأنهم ضلوا وأضلوا ﴿قَالَ﴾ الله ﴿لِكُلِّ﴾ من الأولين والآخرين ﴿ضِعْفَ﴾ أما القادة فبكفرهم وتضليلهم، وأما الأتباع فبكفرهم وتقليدهم فليس المراد تضعيف ما يستحق كل واحد من العذاب لأنه ظلم بل تضعيفه عذاب الضلال بأن يضم إليه عذاب الإضلال والتقليد ﴿وَلَـاكِن لا تَعْلَمُونَ﴾ ما لكم
١٥٩
وما لكل فريق من العذاب.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٥٨
﴿وَقَالَتْ أُولَـاهُمْ﴾ أي : مخاطبين حين سمعوا جواب الله لهم.
﴿فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾ من حيث الاجتناب عن الكفر والضلال فكيف تطمعون أن يكون عذابكم أخف من عذابنا، ويكون عذابنا ضعف عذابكم والحال أنا ما ألجأناكم على الكفر، بل كفرتم لكون الكفر موافقاً لهواكم.
﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ المعهود المضاعف وهو قول القادة على سبيل التشفي.
﴿بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ (بسبب آنكه بوديدكه كسب مى كرديد از كفر اكنون أحواله عذاب بديكرى ميكنيد).
جمله داننداين اكرتونكروى
هره مى كاريش روزى بدروى
واعلم : أن الكفار أهل الإنكار أعرضوا عن إرشاد الأخبار واكتسبوا سنناً سيئة وذهلوا عن السنن الحسنة التي سنتها الأنبياء العظام، والأولياء الكرام، ثم آل أمرهم إلى الاعتراف بجرائمهم وضلالهم حين لا ينفع الإقرار.
فعلى العاقل تدارك الحال قبل حلول الآجال، وفي الحديث :"جددوا إيمانكم" والمراد الانتقال من مرتبة إلى مرتبة فإن أصل الإيمان، قد تم بالأول ولكن الإيمان على ثماني عشرة مرتبة فالعناية من الله تعالى.
وفي "المثنوي" :
تازه كن ايمان نه ازقول زبان
اي هوارا تازه كرده درنهان
تاهواتزه است وايمان تازه نيست
كين هو اجز قفل آن دروازه نيست
فالله تعالى دعا الخلق إلى الإيمان بواسطة الأنبياء عليهم السلام، فمن أجاب اهتدى إلى طريق الجنة ومن لم يجب سقط في النار.
قيل : إنما خلق الله النار لغلبة شفقته وموالاته كرجل يضيف الناس، ويقول من جاء إلى ضيافتي أكرمته ومن لم يجيء ليس عليه شيء، ويقول مضيف آخر من جاء إليّ أكرمته ومن لم يجيء ضربته وحبسته ليبين غاية كرمه وهو آكد وأتم من الإكرام الأول.
قال بعضهم : نار جهنم خير من وجه وشر من وجه كنار نمرود شر في أعينهم وبرد وسلام على إبراهيم، كالسوط في يد الحاكم السوط خير للطاغي، وشر للمطيع فمن أراد أن يسلم من عذاب النار فعليه بطريق الأخيار.


الصفحة التالية
Icon