قوله :﴿لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ﴾ يعني : من مخالفة النفس وقمع الهوى يكون فراشهم ولحافهم حتى تحيط بهم فتذيبهم وتحرق منهم أنانيتهم مع أثقال أوزارهم ليستحقوا دخول الجنة.
﴿وَكَذَالِكَ نَجْزِى الظَّـالِمِينَ﴾ يعني : بهذه الطريقة نضع عنهم أوزارهم ونرد مظالمهم في الدنيا ليردوا القيامة مستعدين لدخول الجنة، ومن لم نجزه في الدنيا بهذه الطريقة فنجزه في الآخرة، كما قال :﴿وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الادْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاكْبَرِ﴾ (السجدة : ٢١) في الآخرة ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (السجدة : ٢١) فيه كذا في "التأويلات النجمية" : فالمجاهدة وسلوك طريق التصفية من دأب الأخيار.
ذكر عن إبراهيم بن أدهم أنه لما أراد أن يدخل البادية أتاه الشيطان فخوفه أن هذه بادية مهلكة، ولا زاد معك ولا مركب فعزم على نفسه رحمه الله أن يقطع البادية على تجرده ذلك وإن لا يقطعها حتى يصلي تحت كل ميل من أميالها ألف ركعة، وقام بما عزم عليه وبقي في البادية اثنتي عشرة سنة حتى أن الرشيد حج في بعض تلك السنين فرآه تحت ميل يصلي فقيل له هذا إبراهيم بن أدهم، فأتاه فقال كيف نجدك يا أبا إسحاق؟ فأنشد إبراهيم بن أدهم يقول :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٦٠
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا
فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
فطوبى لعبد آثر الله ربه
وجاء بدنياه لما يتوقع
قال الحافظ :
دع التكاسل تغنم فقد جرى مثل
كه زاد رهروان ستيست والاكى
﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا﴾ بالآيات.
﴿وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾ أي : الأعمال الصالحات التي شرعت بالآيات وهي ما أريد به وجه الله تعالى.
﴿لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾ أي : طاقتها وقدرتها هو اعتراض بين المبتدأ والخبر للدلالة على أن استحقاق الخلود في النعيم المقيم بسبب اتصافهم بالإيمان والعمل الصالح على حسب ما تسعه طاقتهم، وإن لم يبذلوا مجهودهم فيه، ﴿أولئك أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ﴾ (ملازمان بهشت اند) ﴿هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ﴾ حال من أصحاب الجنة.
﴿وَنَزَعْنَا﴾ النزع قلع الشيء عن مكانه.
﴿مَا فِى صُدُورِهِم﴾ قلوبهم ﴿مِّنْ غِلٍّ﴾ وهو الحقد الكامن والبغض المختفي في الصدور، أي : تخرج من قلوبهم أسباب الحقد الذي كان لبعضهم في حق بعض في الدنيا، فإن ذلك الحقد إنما نشأ من التعلق بالدنيا وما فيها، وبانقطاع تلك العلاقة انتهى ما يتفرع عليه من الحقد ومن جملة أسبابه أيضاً أن الشيطان كان يلقي الوساوس إلى قلوب بني آدم في الدنيا، وقد انقطع ذلك في الآخرة بسبب أن الشيطان لما استغرق في عذاب النيران لم يتفرغ لإلقاء الوسوسة في قلب الإنسان، ويجوز أن يكون المراد نطهر قلوبهم من الغل نفسه حتى لا يكون بينهم إلا التواد، يعني : لا يحسد بعض أهل الجنة بعضاً إذا رآه أرفع درجة منه ولا يغتم بسبب حرمانه من الدرجات الرفيعة العالية.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وابن مسعود وعمار بن ياسر وسلمان وأبي ذر، ينزع الله في الآخرة ما كان في قلوبهم من غش بعضهم لبعض في الدنيا من العداوة والقتل الذي كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم والأمر الذي اختلفوا فيه فيدخلون إخواناً على سرر متقابلين.
١٦٢
اك وصافي شو وازاه طبيعت بدرآى
كه صفايى ندهد آب تراب آلوده
﴿تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ﴾ أي من تحت شجرهم وغرفهم ﴿الانْهَـارَ﴾ زيادة في لذتهم وسرورهم ﴿وَقَالُوا﴾ أي : أهل الجنة إذا رأوا منازلهم.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَاـانَا﴾ بفضله ﴿هَـاذَا﴾ أي : لدين وعمل جزاؤه هذا ﴿وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ﴾ أي : لهذا المطلب الأعلى ﴿لَوْلا أَنْ هَدَاـانَا اللَّهُ﴾ ووفقنا له :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٦٠
كر بدرقه لطف تو ننمايد راه
ازراه تو هيكس نكرد آكاه
آنكه كه بره رسند وبايد رفتن
توفيق رفيق نشد واو يلاه
روي عن السدي أنه قال في هذه الآية : إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فشربوا من إحداهما، فينزع ما في صدورهم من غل وهو الشراب الطهور، واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلم يشعثوا ولم يشحبوا بعده أبداً، والشعث انتشار شعر الرأس، والأشعث : مغبر الرأس، ويقال شحب جسمه يشحب بالضم إذا تغير وشربوا واغتسلوا ويبشرهم خزنة الجنة قبل أن يدخلوها بأن يقولوا لهم :﴿أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فإذا دخلوها واستقروا في منازلهم منها قالوا ﴿الْحَمْدُ﴾ الآية.


الصفحة التالية
Icon