واعلم : أن الغل ظلمة الصفات البشرية وكدورتها وطهارة القلوب بنور الإيمان والأرواح بماء لعرفان والأسرار بشراب طهور تجلى صفات الجمال، وليس في صدور أهل الحقيقة من غل وغش أصلاً لا في الدنيا ولا في العقبى.
﴿لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا﴾ جواب قسم مقدر أي والله لقد جاؤوا ﴿بِالْحَقِّ﴾ فالباء للتعدية، أو لقد جاؤوا ملتبسين بالحق فهي للملابسة يقوله : أهل الجنة حين رأوا ما وعدهم الرسل عياناً واستقروا فيه إظهاراً لكمال نشاطهم وسرورهم.
قال الحدادي : شهادة منهم بتبليغ الرسل للحق إليهم، أي جاؤوا بالصدق فصدقناهم ﴿وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ﴾ يعني : أن الملائكة ينادونهم حين رأى المؤمنون الجنة من بعيد بأن يقولوا لهم : إن تلك التي رأيتموها هي الجنة التي وعدتهم بها في الدنيا فإن مفسرة أو مخففة وتلك مبتدأ أشير به إلى ما رأوه من بعيد والجنة خبره واللام فيها للعهد ﴿أُورِثْتُمُوهَا﴾ أي : أعطيتموها والجملة حال من الجنة.
﴿بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ في الدنيا من الأعمال الصالحة أي بسبب أعمالكم.
فإن قيل : هذه الآية تدل على أن العبد يدخل الجنة بعمله، وقد قال عليه السلام :"لن يدخل الجنة أحدكم بعمله وإنما تدخلونها برحمة الله تعالى وفضله" فما وجه التوفيق بينهما.
أجيب : بأن العمل لا يوجب دخول الجنة لذاته وإنما يوجبه من حيث أنه تعالى وعد للعاملين أن يتفضل بها بمحض رحمته وكمال فضله وإحسانه ولمّا كان الوعد بالتفضل في حق العاملين بمقابلة عملهم كان العمل بمنزلة السبب المؤدي إليها فلذلك قيل أورثتموها بأعمالكم كذا في "حواشي ابن الشيخ" وفي الخبر إنه يقال لهم يوم القيامة "جوزوا الصراط بعفوي وادخلوا الجنة برحمتي واقتسموها بأعمالكم"، وهي جنة الأعمال وهي التي ينزل الناس فيها بأعمالهم فمن كان أفضل من غيره في وجوه التفاضل كان له من الجنة أكثر سواء كان الفاضل بهذه الحالة دون المفضول، أو لم يكن فما من عمل إلا وله جنة يقع التفاضل فيها بين أصحابها ورد في الحديث
١٦٣
الصحيح عن النبي عليه السلام أنه قال لبلال يا بلال :"بِمَ سبقتني إلى الجنة؟ فما وطئت منها موضعاً إلا سمعت خشخشتك" فقال يا رسول الله : ما أحدثت قط إلا توضأت وما توضأت إلا صليت ركعتين فقال عليه السلام :"بهما" فعلمنا أنها كانت مخصوصة بهذا العمل فما من فريضة ولا نافلة ولا فعل خير ولا ترك محرم ومكروه إلا وله جنة مخصوصة ونعيم خاص يناله من دخلها.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٦٠
والتفاضل على مراتب : فمنها بالسنّ : ولكن في الطاعة والإسلام فيفضل الكبير السنّ على الصغير السنّ إذا كانا على مرتبة واحدة من العمل، ومنها بالزمان فإن العمل في رمضان وفي يوم الجمعة وفي ليلة القدر وفي عشر ذي الحجة وفي عاشوراء أعظم من سائر الزمان، ومنها بالمكان : فالصلاة في المسجد الحرام أفضل منها في مسجد المدينة وهي من الصلاة في المسجد الأقصى وهي منها في سائر المساجد، ومنهما بالأحوال : فإن الصلاة بالجماعة أفضل من صلاة الشخص وحده، ومنها بنفس الأعمال : فإن الصلاة أفضل من إماطة الأذى ومنها في العمل الواحد فالمتصدق على رحمه صاحب صلة رحم وصدقة، وكذا من أهدى هدية لشريف من أهل البيت أفضل ممن أهدى لغيره أو أحسن إليه، ومن الناس من يجمع في الزمن الواحد أعمالاً كثيرة فيصرف سمعه وبصره ويده فيما يبتغي في زمان صومه وصدقته بل في زمان صلاته في زمان ذكره في زمان نيته من فعل وترك فيؤجر في الزمن الواحد من وجوه كثيرة فيفضل غيره ممن ليس له ذلك.
ومن الجنات جنة اختصاص إلهي : وهي التي يدخلها الأطفال الذين لم يبلغوا حد العمل وحدّه من أول ما يولد، أي : يستهل صارخاً إلى انقضاء ستة أعوام ويعطي الله من شاء من عباده من جنات الاختصاص ما شاء، ومن أهلها المجانين الذين ما عقلوا، ومن أهلها أهل التوحيد العلمي، ومن أهلها أهل الفترات ومن لم يصل إليهم دعوة رسول.
ومن الجنات جنة ميراث : ينالها كل من دخل الجنة ممن ذكرنا ومن المؤمنين وهي الأماكن التي كانت معينة لأهل النار لو دخلوها وفي الحديث :"كل من أهل النار يرى منزله في الجنة، فيقولون لو هدانا الله، فيكون عليهم حسرة، وكل من أهل الجنة يرى منزله في النار، فيقولون لولا أن الله هدانا".
واعلم : أن الجنة صورية ومعنوية صورية محسوسة مؤجلة ومعنوية معقولة معجلة وأهلها أهل الفناء في الله والبقاء بالله : قال الحافظ :
جنت نقدست اين جا عشرت وعيش وحضور
زانكه درجنت خدا بربنده ننويسد كناه
اللهم شرفنا بالجنان إنك أنت المنان.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٦٠


الصفحة التالية
Icon