وعن ذي النون رضي الله عنه قال : أوحى الله سبحانه إلى موسى عليه السلام يا موسى كن كالطير الوحداني يأكل من رؤوس الأشجار ويشرب الماء القراح، أو قال من الأنهار إذا جنه الليل أوى إلى كهف من الكهوف استئناساً بي واستيحاشاً ممن عصاني يا موسى إني آليت على نفسي أن لا أتم لمدعي عملاً، ولأقطعن أمل من أمل غيري ولأقصمنّ من استند إلى سواي ولأطيلن وحشة من أنس بغيري ولأعرضن عمن أحب حبيباً سواي يا موسى إن لي عباداً إن ناجوني أصغيت إليهم وإن نادوني أقبلت عليهم، وإن أقبلوا عليّ أدنيتهم وإن دنوا مني قربتهم وإن تقربوا مني كفيتهم وإن والوني واليتهم وإن صافوني صافيتهم، وإن عملوا إليّ جازيتهم أنا مدبر أمرهم وسائس قلوبهم ومتولي أحوالهم لم أجعل لقلوبهم راحة في شيء إلا في ذكري فهؤلاء سقامهم شفاء وعلى قلوبهم ضياء لا يستأنسون إلا بي، ولا يحطون رحال قلوبهم إلا عندي ولا يستقر بهم قرار في الإيواه إلا إليّ.
﴿وَبَيْنَهُمَا﴾ أي بين الفريقين أو بين الجنة والنار ﴿حِجَابٍ﴾ كسور المدينة حتى لا يقدر أهل النار أن يخرجوا إلى الجنة ولئلا يتأذى أهل الجنة بالنار ولا يتنعم أهل النار بنعيم الجنة لأن الحجاب المضروب بينهما يمنع وصول أثر إحداهما إلى الأخرى ؛ لأنه قد جاء "أن الحور العين لو نظرت واحدة منهن إلى الدنيا نظرة لامتلأت الدنيا من ضوئها وعطرها" وجاء في وصف النار "أن شرارة منها لو وقعت في الدنيا لأحرقتها".
قال الحدادي : فإن قيل كيف يصح هذا التأويل في الحجاب بين الجنة والنار ومعلوم أن الجنة في السماء والنار في الأرض، قيل : لم يبين الله حال الحجاب المذكور في الآية ولا قدر المسافة فلا يمتنع أن يكون بين الجنة والنار حجاب وإن بعدت المسافة.
﴿وَعَلَى الاعْرَافِ﴾ أي : أعراف ذلك الحجاب، أي أعاليه وهو السور المضروب بينها قيل هو جبل أحد يوضع هناك جمع عرف وهو كل عال مرتفع ومنه عرف الديك والفرس سمي عرفاً ؛ لأنه بسبب ارتفاعه يكون أعرف مما انخفض منه.
﴿رِجَالٌ﴾ طائفة من المؤمنين تساوت حسناتهم وسيئاتهم فهم ينظرون إلى النار وينظرون إلى الجنة ومالهم رجحان بما يدخلهم إحدى الدارين، فإذا دعوا إلى السجود وهو الذي يبقى يوم القيامة من التكليف يسجدون فيرجح ميزان حسناتهم فيدخلون الجنة وهو أحد الأقوال في تعيين أصحاب الأعراف وسيجيء الباقي.
﴿يَعْرِفُونَ﴾ صفة رجال ﴿كَلا﴾ أي : كل فريق من أصحاب الجنة وأصحاب النار أي بسبب علاماتهم التي أعلمهم الله كبياض الوجه وسواده وهذا في العرصات قبل دخول الجنة والنار، فإن المعرفة بعد الدخول تحصل بالمشاهدة والإحساس ولا يحتاج إلى الاستدلال بسيماهم، وأما النداء والصرف والإتيان فبعد الدخول :﴿وَنَادَوْا﴾ أي : الرجال وهو صفة ثانية لرجال عدل إلى لفظ الماضي تنزيلاً للنداء منزلة الواقع ﴿أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ أَنْ﴾ تفسيرية أو مخففة ﴿سَلَـامٌ عَلَيْكُمُ﴾ يعني : إذا نظروا إليهم سلموا عليهم سلام التحية والإكرام وبشروهم بالسلامة من جميع المكاره والآفات.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٦٤
﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا﴾ حال من فاعل نادوا أي نادوا حال كونهم لم يدخلوها.
١٦٦
﴿وَيُطْعِمُونَ﴾ أي : والحال إنهم طامعون في دخولها حال من فاعل يدخلوها أي نادوهم، وهم لم يدخلوها حال كونهم طامعين في دخولها مترقبين له، أي : لم يدخلوها وهم في وقت عدم الدخول طامعين وسبب طمعهم أنهم من أهل لا إله إلا الله ولا يرونها في ميزانهم ويعلمون أن الله تعالى لا يظلم مثقال ذرة ولو جيء بذرة لإحدى الكفتين لرجحت بها ؛ لأنها في غاية الاعتدال فيطمعون في كرم الله وعدله وأنه لا بد أن يكون لكلمة لا إله إلا الله عناية بصاحبها، فيظهر لها أثر عليهم فيقفون هناك حتى يقضي الله فيهم ما يشاء ثم يدخلهم الجنة برحمته، وهم آخر من يدخل الجنة وإذا أراد الله أن يعافيهم انطلق بهم إلى نهر يقال له نهر الحياة حافتاه قضب الذهب مكلل باللؤلؤ ترابه المسك فألقوا فيه حتى تصلح ألوانهم وفي نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها، ثم يؤتى بهم فيدخلون الجنة ويسمون مساكين أهل الجنة.
قال الحافظ :
هست اميدم على رغم عدو روز جزا
فيض عفوش ننهد باركنه بر دوشم
﴿وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَـارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَـابِ النَّارِ﴾ أي : إلى جهنم وفي عدم التعرض لتعلق أنظارهم بأصحاب الجنة، والتعبير عن تعلق أبصارهم بأصحاب النار بالصرف إشعار بأن التعلق الأول بطريق الرغبة والميل والثاني بخلافه.
وفي "تفسير الزاهدي" : إن الملك يصرف أبصارهم إليهم بأمر الله تعالى ﴿قَالُوا﴾ متعوذين بالله تعالى من سوء حالهم ﴿رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ﴾ أي : في النار أي يدعون بذلك خوفاً من الله تعالى لأجل معاصيهم.