قال في "التأويلات النجمية" : لما أتم خلق المكونات من الأنواع الستة استوى على العرش بعد الفراغ من خلقها استواء التصرف في العالم، وما فيه التدبر في أموره من العرش إلى تحت الثرى وإنما خص العرش بالاستواء ؛ لأنه مبدأ الأجسام اللطيفة القابلة للفيض الرحماني وهذا الاستواء صفة من صفات الله تعالى لا يشبه استواء المخلوقين، كالعلم صفة من صفاته لا يشبه علم المخلوقين ؛ إذ ليس كمثله شيء وهو السميع العليم ولو أمعنت النظر في خصوصية خلافتك الحق تعالى لعرفت نفسك فعرفت ربك وذلك أن الله تعالى لما أراد خلق شخصك من النطفة المودعة في الرحم استعمل روحك بخلافته ليتصرف في النطفة أيام الحمل فيجعلها عالماً صغيراً مناسباً للعالم الكبير، فيكون بدنه بمثابة الأرض ورأسه بمثابة السماء وقلبه بمثابة العرش وسره بمثابة الكرسي وهذا كله بتدبير الروح وتصرفه خلافة عن ربه، ثم استوى الروح بعد فراغه من الشخص الكامل على عرش القلب استواء مكانياً، بل استوى ليتصرف في جميع أجزاء الشخص ويدبر أموره بإفاضة فيضه على القلب فإن القلب هو القابل لفيض الحق تعالى إلى المخلوقات كلها كما أن القلب مغتنم فيض الروح إلى القالب كله، فإذا تأملت في هذا المثال تأملاً شافياً وجدته في نفي الشبيه عن الصفات المنزهة المقدسة كافياً وتحققت حقيقة من عرف نفسه فقد عرف ربه إن شاء الله تعالى.
ثم إنه تعالى لما ذكر استواءه على العرش وأخبر بما أخبر من نفاذ أمره واطراد تدبيره بين ذلك بطريق الاستئناف فقال :﴿يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ﴾ أي : يجعل الليل غاشياً يغشي النهار بظلمته فيذهب بنور النهار ويغطيه بظلمة الليل ولم يذكر العكس اكتفاء بأحد الضدين.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٧٠
وفيه إشارة إلى ليل ظلمات النفس عند استيلاء صفاتها وغلبات هواها على نهار أنوار القلب وإلى نهار القلب عند غلبات أنواره واستيلاء المحبة عليه.
﴿يَطْلُبُه حَثِيثًا﴾ حال من الليل أي يجعل الليل غاشياً للنهار حال كون الليل طالباً أي : لمجيئه
١٧٥
عقيب الليل سريعاً، وحثيثاً منصوب على أنه صفة مصدر محذوف، أي : يطلبه طلباً حثيثاً، أي : سريعاً ولما كان كل واحد من الليل والنهار يعقب الآخر ويجيء بعده من غير أن يفصل بينهما بشيء صار كأنه يطلب الآخر على منهاج واحد.
﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتا بِأَمْرِهِ﴾ عطف على السموات أي خلق كل هذه المخلوقات حال كونها مسخرات بقضائه وتصرفه أي مذللات لما يراد منها من الطلوع والأفول والحركات المقدرة والأحوال الطارئة عليها ﴿إِلا﴾ تنبيه معناه اعلموا ﴿لَهُ﴾ أي : تعالى والتقديم للتخصيص.
﴿الْخَلْقُ وَالامْرُ﴾ فإنه الموجد للكل والمتصرف فيه على الإطلاق.
وفي "التأويلات النجمية" : ما خلق بأمره تعالى من غير واسطة أمر وما خلق بواسطة خلق.
وذكر الإمام أن العالم وهو ما سوى الله تعالى منحصر في نوعين : عالم الخلق وعالم الأمر، وأن المراد بعالم الخلق عالم الأجساد والجسمانيات وبعالم الأمر عالم الأرواح والمجردات، وإن قوله تعالى :﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ﴾ إشارة إلى هذين العالمين عبر عن العالم الأول بعالم الخلق لأن الخلق عبارة عن التقدير وكل ما كان جسماً أو جسمانياً كان مخصوصاً بمقدار معين فعبر عنه بعالم الخلق وكل ما كان مجرداً عن الحجم والمقدار كان من عالم الأرواح ومن عالم الأمر مكونات بمجرد أمركن فخص كل واحد منهما باسم مناسب له، وقيل ألا له الخلق والأمر انتهى كلام الإمام.
وقال حضرة شيخنا العلامة أبقاه الله بالسلامة : الخلق عالم العين والكون والحدوث روحاً وجسماً والأمر عالم العلم والآلة والوجوب وعالم الخلق تابع لعالم الأمر إذ هو أصله ومبدؤه ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى﴾ (الإسراء : ٨٥) والله غالب على أمره.
﴿تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَـالَمِينَ﴾ أي : تعالى بالوحدانية في الألوهية وتعظيم بالتفرد في الربوبية.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٧٠


الصفحة التالية
Icon