قال سلطان العارفين أبو يزيد البسطامي : دعوت الله ليلة فأخرجت إحدى يدي والأخرى ما قدرت على إخراجها من شدة البر فنمت فرأيت في منامي أن يدي الظاهرة مملوءة نوراً والأخرى فارغة فقلت ولم ذاك يا رب فنوديت اليد التي خرجت للطلب ملأناها والتي توارت حرمناها، ورفع الأيدي إلى السماء والنظر إليها وقت الدعاء بمنزلة أن يشير سائل
١٧٧
إلى الخزانة السلطانية، ثم يطلب من السلطان أن يفيض عليه سجال العطاء من هذه الخزانة قال تعالى :﴿وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ (الذاريات : ٢٢) فالسماء قبلة الدعاء ومحل نزول البركات والأفضل أن يبسط كفيه ويكون بينهما فرجة.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٧٠
وإن قلت : ولا يضع إحدى يديه على الأخرى فإن كان وقت عذر أو برد فأشار بالمسبحة قام مقام بسط كفيه.
والمستحب أن يرفع يديه عند الدعاء بحذاء صدره كذا روي بن عباس رضي الله عنهما فعل النبي عليه السلام كذا في "القنية" ﴿إِنَّه لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ أي : المجاوزين ما أمروا به في الدعاء وغيره نبه به على أن الداعي ينبغي أن لا يطلب ما لا يليق كرتبة الأنبياء والصعود إلى السماء وقيل هو الصياح في الدعاء والإسهاب فيه.
وعن النبي صلى الله عليه وسلّم "سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول : اللهم إني أسألك الجنة وما قرّب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول وعمل، ثم قرأ إنه لا يحب المعتدين" فاللائق للداعي أن يدعو بأهمّ الأمور هو الفوز بالجنة والنجاة من النار كما قال النبي عليه السلام للأعرابي الذي قال إني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار إني لا أعرف دندنتك ولا دندنة معاذ وقال :"حولهما ندندن" ومعناه إني لا أعرف ما تقول أنت ومعاذ يعني من الأذكار والدعوات المطولة ولكني أختصر على هذا المقدار فأسأل الله الجنة وأعوذ به من النار ومعنى قوله عليه السلام :"حولهما ندندن" إن القصد بهذا الذكر الطويل الفوز بهذا الأجر الجزيل ﴿وَلا تُفْسِدُوا فِى الأرْضِ﴾ بالكفر والمعاصي ﴿بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا﴾ ببعث الأنبياء وشرع الأحكام.
قال الحدادي وقيل : معناه لا تعصوا في الأرض فيمسك المطر عنها ويهلك الحرث بمعاصيكم ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ مصدران في موقع الحال أي خائفين من الرد لقصور أعمالكم وعدم استحقاقكم وطامعين في إجابته تفضلاً وإحساناً لفرط رحمته ﴿وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا﴾ وتذكير قريب مع أنه مسند إلى ضمير الرحمة لتأويل الرحمة بالرحم فإن الرحم بضم الراء بمعنى الرحمة قال الله تعالى :﴿وَأَقْرَبَ رُحْمًا﴾ (الكهف : ٨١) قال الكسائي : أراد أن إتيان رحمة الله قريب كقوله :﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا﴾ (الأحزاب : ٦٣) أي : لعل إتيانها والمعنى إن رحمة الله قريب من الداعين بلسان ذاكر شاكر وقلب حاضر طاهر وترجيح للطمع وتغليب لجانب الرحمة وتنبيه على وسيلة الإجابة أعني الإحسان المفسر "بأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" وفي الحديث :"ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة" يعني : ليكن الداعي ربه على يقين بأن الله يجيب لأن رد الدعاء إما للعجز في إجابته أو لعدم كرم في المدعو أو لعدم علم المدعو بدعاء الداعي وهذه الأشياء منتفية عن الله تعالى فإنه عالم كريم قادر لا مانع له من الإجابة.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٧٠
قال سهل : ما أظهر عبد فقره إلى الله تعالى في وقت الدعاء في شيء يحل به إلا قال الله تعالى لملائكته لولا أنه لا يحتمل كلامي لأجبته لبيك حكي أن موسى عليه السلام مرّ برجل يدعو ويتضرع فقال موسى لو كانت حاجته بيدي لقضيتها فأوحى الله تعالى إليه أنا أرحم به منك ولكنه يدعوني وله غنم وقلبه في غنمه وأنا لا أقبل دعوة عبد قلبه عند غيري فذكر ذلك للرجل فتوجه إلى الله بقلبه فقضيت حاجته فيلزم حضور القلب وحسن الظن بالله في إجابة الدعاء وحكي عن بعض البله وهو في طواف الوداع أنه قال له رجل وهو يمازحه
١٧٨
هل أخذت من الله براءتك من النار فقال الأبله لا وهل أخذ الناس ذلك فقال : نعم فبكى ذلك الأبله ودخل الحجر وتعلق بأستار الكعبة وجعل يبكي ويطلب من الله أن يعطيه كتابه بعتقه من النار فجعل أصحابه والناس يلومونه ويعرفونه أن فلاناً مزح معك وهو لا يصدقهم بل بقي مستقراً على حاله فبينا هو كذلك إذ سقطت عليه ورقة من جهة الميزاب فيها مكتوب عتقه من النار فسرّ بها وأوقف الناس عليها وكان من آية ذلك الكتاب أن يقرأ من كل ناحية على السواء لا يتغير كلما قلبت الورقة انقلبت الكتابة لانقلابها فعلم الناس أنه من عند الله.