﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَـالَـاتِ رَبِّى﴾ الرسالة صفة واحدة قائمة بذات الرسول متعلقة بالإضافة إلى المرسل والمرسل إليه إلا أنها جمعت نظراً إلى تعددها بحسب تنوع معانيها كالعقائد والمواعظ والأحكام، أو لأن المراد بها ما أوحى إليه وإلى الأنبياء قبله كصحف شيث وهي خمسون صحيفة وصحف إدريس وهي ثلاثون صحيفة.
﴿وَأَنصَحُ لَكُمْ﴾ زيادة اللام مع تعدي النصح بنفسه يقال نصحتك للدلالة على إمحاض النصح لهم وإنها لمنفعتهم ومصلحتهم خاصة، فإنه ربَّ نصيحة ينتفع بها الناصح أيضاً وليس الأمر ههنا كذلك والفرق بين تبليغ الرسالة وتقرير النصيحة أن تبليغ الرسالة معناه، أن يعرف أنواع تكاليف الله وأحكامه والنصيحة المراد بها الترغيب في الطاعة والتحذير من المعاصي والإرشاد إلى ما فيه مصالح المعاد.
قال الحدادي : النصح إخراج الغش من القول والفعل.
﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ أي : أعلم من قدرته القاهرة وبطشه الشديد على أعدائه، وأن بأسه لا يرد عن القوم المجرمين ما لا تعلمونه قيل كانوا لم يسمعوا بقوم حل بهم العذاب قبلهم فكانوا غافلين آمنين لا يعلمون ما علمه نوح عليه السلام بالوحي.
﴿أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ الهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر، أي استبعدتم وعجبتم من أن جاءكم وحي أو موعظة من مالك أموركم ومربيكم.
﴿عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ﴾ أي : على لسان رجل من جنسكم فإنهم كانوا يتعجبون من إرسال البشر ويقولون لا مناسبة بينه تعالى وبين البشر من حيث أنه تعالى في غاية التقدس والتنزه والبشر في غاية التعلق والتكدر فأنكر عليهم نوح عليه السلام ؛ لأنه لا سبيل إلى أن يكلف الله البشر بنفسه من غير واسطة لأن حجاب العظمة والكبرياء يمنع من أن يتحقق بينهم الفيض والاستفاضة فتعين أن يكون التكليف بأن يرسل بشراً ذا جهتين يستفيض من عالم الغيب بجهة تجرده وصفاء روحانيته ويفيض لبني نوعه بجهة مشاركته لهم في الحقيقة النوعية.
﴿لِيُنذِرَكُمْ﴾ علة للمجيء، أي ليحذركم عاقبة الكفر والمعاصي.
﴿وَلِتَتَّقُوا﴾ منها بسبب الإنذار.
﴿وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ أي : ولتتعلق بكم الرحمة بسبب تقواكم وفائدة حرف الترجي التنبيه على عزة المطلب وأن التقوى غير موجبة للرحمة، بل هي منوطة بفضل الله تعالى وأن المتقي ينبغي أن لا يعتمد على تقواه ولا يأمن من عذاب الله تعالى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٨٢
﴿فَكَذَّبُوهُ﴾
١٨٣
واستمروا على ذلك في هذه المدة المتطاولة ؛ إذ هو الذي يعقبه الإنجاء والإغراق لا مجرد التكذيب روي أن نوحاً عليه السلام دعا بهلاك قومه فأمره الله تعالى بصنع الفلك فلما تم دخل فيه مع المؤمنين فأرسل الله الطوفان وأغرق الكفار وأنجى نوحاً مع المؤمنين فذلك قوله تعالى :﴿فَأَنجَيْنَـاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ من المؤمنين وكانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة.
﴿فِى الْفُلْكِ﴾ متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الظرف، أي والذين استقروا معه في الفلك.
﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَـاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ أي : استمروا على تكذيبها وليس المراد بهم الملأ المتصدين للجواب فقط، بل كل من أصر على التكذيب منهم ومن أعقابهم، وتقديم ذكر الإنجاء على الإغراق للإيذان بسبق الرحمة التي هي مقتضى الذات وتقدمها على الغصب الذي يظهر أثره بمقتضى جرائمهم.
﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ﴾ أصله عميين جمع عم أصله عمى على وزن خضر فأعل كإعلال قاضضٍ.
قال أهل اللغة : يقال رجل عم في البصيرة وأعمى في البصيرة وأعمى في البصر، والمعنى عمين قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد غير مستبصرين وهذا العمى مانع عن رؤية الآيات ومشاهدة البينات.
قال الحافظ :
جمال يار ندارد نقاب ورده ولى
غبار ره بنشان تا نظر توانى كرد
بخلاف أعمى البصر إذا كان مستعداً للنظر فإنه كم من أعمى قادر على الرؤية من حيث الحقيقة.
قال الصائب :
دل و بينا ست ه غم ديده اكرنا بيناست
خانه آيينه را روشنى از روزن نيست