والإشارة : أن المعجزة للعوام أن يخرج لهم من حجارة الصخرة ناقة عشراء، والمعجزة للخواص أن يخرج لهم من حجارة القلب ناقة السر بسقب سر السر وهو الخفي، وناقة الله التي تحمل أمانة معرفته وتعطي ساكني بلد القالب من القوى والحواس لبن الواردات الإلهية فذروها تأكل في أرض الله، أي ترتع في رياض القدس وتشرب في حياض الأنس ولا تمسوها بسوء مخالفات الشريعة ومعارضات الطريقة فيأخذكم عذاب أليم بالانقطاع عن مواصلات الحقيقة ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِنا بَعْدِ عَادٍ﴾ أي : اذكروا وقت جعله تعالى إياكم خلفاء في أرض الحجر أو خلفاء لقوم عاد من بعد إهلاكهم فنصب إذ على المفعولية كما سبق في القصة المتقدمة ﴿وَبَوَّأَكُمْ فِى الأرْضِ﴾ أي أنزلكم في أرض الحجر بالفارسي (جاى داد شمارا).
قال أبو السعود : أي جعل لكم مباءة ومنزلاً في أرض الحجر بين الحجاز والشام.
﴿تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا﴾ استئناف مبين لكيفية التبوئة أي تبنون في سهولها قصوراً رفيعة على أن من بمعنى في كما في قوله تعالى :﴿إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَواةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ﴾ (الجمعة : ٩) أو سهولة الأرض بما تعملون منها من اللبن والآجر.
﴿وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ﴾ أي : الصخور والنحت نجر الشيء الصلب وانتصاب الجبال على المفعولية.
﴿بُيُوتًا﴾ حال مقدرة من الجبال كما تقول خط هذا الثوب قميصاً، قيل : كانوا يسكنون السهول في الصيف والجبال في الشتاء وقيل إنهم لطول أعمارهم كانوا يحتاجون إلى أن ينحتوا من الجبال بيوتاً لأن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم.
﴿فَاذْكُرُوا ءَالاءَ اللَّهِ﴾ أي : احفظوا نعم الله عليكم فإن حق آلائه تعالى أن تشكر ولا يغفل عنها ﴿وَلا تَعْثَوْا فِى الارْضِ مُفْسِدِينَ﴾ العثي : أشد الفساد فقيل لهم لا تتمادوا في الفساد حال كونكم مفسدين فالمراد بهذه الحال تعريفهم بأنهم على الفساد لا تقييد العامل، وإلا لكان مفهومه مفيداً معنى تمادوا في الفساد حال كونكم مصلحين وهذا غير جائز، وقيل : إنما قيد به لما أن العثي في الأصل مطلق التعدي وإن غلب في الفساد، فقد يكون في غير الفساد كما في مقابلة غير الظالم الظالم المتعدي بفعله، وقد يكون فيه صلاح راجح كقتل الخضر عليه السلام للغلام وخرقه السفينة فيكون التقييد بالحال تقييداً للعام بالخاص.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٨٩
﴿قَالَ﴾ استئناف ﴿الْمَلا﴾ أي : الأشراف والرؤساء ﴿الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ﴾ أي : تعظموا عن الإيمان به.
١٩١
﴿لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾ اللام للتبليغ، أي : للذين استضعفوهم واستذلوهم.
﴿لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ﴾ بدل من الذين استضعفوا بدل الكل والضمير للقوم.
﴿أَتُعَلِّمُونَ﴾ (اياشما ميدانيد) ﴿أَنَّ صَـالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ قالوه بطريق الاستهزاء بهم ﴿قَالُوا﴾ أي : المؤمنون المستضعفون ﴿إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ﴾ من التوحيد والعبادة ﴿مُؤْمِنُونَ﴾ عدلوا عن الجواب الموافق لسؤالهم بأن يقولوا نعم أو نعلم أنه مرسل منه تعالى تنبيهاً على أن إرساله أمر معلوم مقرر عندهم حيث أوردوه صلة للموصول ومن المعلوم أن الصلة لا بد أن تكون جملة معلومة الانتساب إلى ذات الموصول فكأنهم قالوا لا كلام في إرساله لأنه أظهر من أن يشك فيه عاقل ويخفى على ذي رأي لما أتى به من هذا المعجز العظيم الخارق وإنما الكلام في الإيمان به فنحن مؤنمون به فهذا الجواب من أسلوب الحكيم وهو تلقي المخاطب بغير ما يترقب.
﴿قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِى ءَامَنتُم بِه كَـافِرُونَ﴾ عدلوا عن الجواب المطابق، وهو إنا بما أرسل به كافرون لدلالته على أن إرساله معلوم مسلم عندهم، كما دل عليه قول المؤمنين فكأنهم قالوا ليس إرساله معلوماً لنا مسلماً عندنا وليس هنالك إلا دعواه وإيمانكم به ونحن بما آمنتم به كافرون فالمؤمنون فرعوا إيمانهم على الإرسال الثابت والكفار فرّعوا كفرهم على إيمان المؤمنين.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٩١
واعلم : أن الله تعالى ذم الكفار بوجهين أحدهما الاستكبار وهو رفع النفس فوق قدرها وجحود الحق والآخر أنهم استضعوا من كان يجب أن يعظموه ويبجلوه ومدح المؤمنين حيث ثبتوا على الحق وأظهروه مع ضعفهم عن مقاومة الكفار كما دل عليه قوله :﴿إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِه مُؤْمِنُونَ﴾.
﴿فَعَقَرُوا النَّاقَةَ﴾ أي : نحروها وبالفارسي (س ى كردند وبكشتند ناقه را) أسند العقر إلى الكل مع أن المباشر بعضهم للملابسة أو لأن ذلك كان برضاهم فكأنه فعله كلهم.
روي أن الناقة كانت ترد الماء غباً فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر فما ترفعه حتى تشرب كل ما فيها لا تدع قطرة واحدة ثم تتفحج فيحلبون ما شاؤوا حتى تمتلىء أوانيهم كلها فيشربون ويدخرون ثم تصدر من أعلى الفج الذي وردت منه لأنها لا تقدر أن تصدر من حيث ترد لضيقه.


الصفحة التالية
Icon